كوابيس الغرفة 35

نشر في 25-12-2016
آخر تحديث 25-12-2016 | 00:00
 ناصر الظفيري التقينا دون سابق تمهيد بعد انقطاعات طويلة بيني وبينه، كان آخرها حادثاً مرورياً على طريق "السالمي"، قبل أكثر من ثلاثين سنة، ونسيته ونسيني. لم نفكر أننا سنلتقي رغم يقيننا بذلك اللقاء في لحظة ما، لحظة لم أتوقع أن تأتي هكذا مفاجئة، وأن ينقضّ علي كأسد على خاصرة طريدة.

نقلني المسعفون للغرفة 35، وخلال ساعات قرر الجراح أن يصارعه معي. قال لي: "ستعيش، لأنك قوي، ولست الوحيد المصاب بهذا المرض اللعين". وتلك كلمات ربما تعني عكسها على ألسنة الجراحين. أجلستني الممرضة منتصباً، ووضعت مسندة بين جسدها ورأسي، وطلبت أن أمثل حركة القط الغاضب، فأحنيت ظهري ليسري المخدر في جسدي وأختفي عن الوعي بالعالم حولي خلال ثانية أو أقل. لم أرها ترفع الوسادة بيننا، ولم أعرف الحركة التالية التي قمت بها بعد القط الغاضب.

كنت أعلم بأن عدم عودتي للحياة تعني انتصاره الآن وهزيمتي وهزيمة جرّاحي الواثق من نفسه، وأعلم أن عودتي تعني صراعاً طويلاً ومريراً معه. ولكنني كنت أفضل الصراع على الذهاب. أعرف أنه منتصر، لا ريب، ولكن ليس الآن، ليس قبل أن نتكافأ في صراعنا، ليس قبل أن أُمنح فرصة الدفاع عن لحظتي التي فاجأني بها. لا أريد له أن يختار كل شيء، فليكن له الزمن ولي المكان، سأختار المكان الذي أريد وله كل شيء حتى الطريقة التي يختارها لهيئته.

أفقت بعد سبع ساعات على صوت ينادي اسمي، وممرضة بمنتصف العمر شقراء بعينين زرقاوين تطلب مني أن أستفيق، "يا إلهي، لقد كتبت هذا المشهد القصصي من قبل".

في الغرفة 35 كنت وحيداً بعيداً غريباً، أتذكر الذين مروا قبلي على هذه الغرف الموحشة. أتأمل البياض في الغرفة، وأتذكر أمل دنقل الذي أحببتُ وهو يعيش أيامه الأخيرة في الغرفة رقم 8، وأن كل هذا البياض المزيف على الجدران والورد والمصل ومعاطف الأطباء ما هو إلا الخدعة التي نوهم بها الموت بأنه ليس في الغرفة، ولكنه في ملابس المعزين خارج هذه الغرفة. أتذكر درويش وهو يجهز الوقت المتبقي للصراع بينه وبين الموت لكتابة جداريته التاريخية ليقول لموته هزمتك الفنون جميعها ويخاصمه ويعاتبه دون أن يعبأ الموت به. فالحقيقة أن البشري لن يهزم الموت.

الذي لا يمنحه هذا الموت المفاجئ هو لحظة الوداع التي نريد، كنت أريد أن أعود للجهراء للمرة الأخيرة، وأجلس للمرة الأخيرة في المقهى حول أصدقاء العمر. وما أريده في صراعي معه أن ينمنحي وقتا كافيا لأنهي مخطوطتي الأخيرة حول الجهراء، وأن أنتظره هناك، ولينتهي بيننا كل شيء بعد ذلك بود، ونكون خرجنا متعادلين. فلأمض أنا لمهمتي الأخيرة وليمض هو لمهامه التي لا تنتهي. وستكون بعدنا غرف موحشة وغرباء يودعون عالمين وزمانين ومكانين.

back to top