عنوان المقالة اقتبسته من حديث لجوليا كريستيفا، أستاذة علم اللغة بجامعة باريس السابعة، ولها كتب عديدة، منها "ثورة في اللغة الشعرية"، و"الرغبة في اللغة: اقتراب علاماتي من الأدب والفن، وقوي الرعب"، و"في البدء كان الحب: التحليل النفسي والإيمان"، و"الشمس السوداء" و"غرباء على أنفسنا".

رؤيتها وتفسيرها لكل أشكال العنف ينطبقان تماما مع ما أنتجته لنا ثورات الربيع العربي، وهو كشف وإزاحة الستار عن العنف المخبأ في الشعوب العربية، بعد تساقط رؤوس حكامها وزوال تأثير حكمهم القمعي.

Ad

هذه الشعوب لم تستفد من تغيير واقعها وزوال دكتاتورية رؤسائها، ولم تعمل على استغلال فرصة التحرر من زمن قمع طويل لم يعرفوا فيه أي معنى للتحقق وتذوق روح الديمقراطية،

وهو ما يحدث الآن بالعراق، كمثال على التحرر، الذي لم يأتِ بنتائج مرجوة، فقد تحولت القوميات والعرقيات المختلفة بالعراق إلى التقاتل فيما بينها. وبدلا من التوجه إلى البناء، توجهوا إلى تدمير بعضهم بعضا، وهو ما ينطبق مع تحليل جوليا كريستيفا، الذي شرحت فيه وضع القوميات البلطيقية والصربية والسلوفاكية والكرواتية، بعد زوال الشيوعية القمعية: "هذه الأقوام الممزقة هي أقوام تم إذلالها طويلا بهويتها. لم تميز الماركسية السوفياتية هذه الهوية، لذلك فإن كل ما لديهم الآن هو ردة فعل ضد الاكتئاب اتخذت أشكالا مجنونة، إذا كان لي أن أصفها هكذا. إن الشعور غير السوي بقوة الأصول والقيم الفلكلورية المهجورة يمكن له أن يأخذ أشكالا عنيفة، لأن المرء يريد عدوا، وبما أن العدو لم يعد الشيوعية لزوالها، فإنه سيكون الآخر: الجماعات العرقية الأخرى، والأقوام الأخرى، وأكباش الفداء... إلخ".

كل كتاباتها تدور حول العنف وتحليله وأثر انعكاساته على كل مواضيع حياة البشر، مثلما يحدث الآن، فالعنف بات العنصر الضروري بحياة الناس، وباتت مشاهدته والتعامل معه اعتياديا جدا وعاديا بالمشاهد اليومية، منذ الصباح إلى ساعات النوم. كل ما حولنا ليس إلا تعاملات عنيفة، سواء كانت عبر ما تبثه وسائل الإعلام وشبكات القنوات التلفزيونية أو الأجهزة الإلكترونية والموبايلات، أو ما يدور بالبيوت والشوارع.

بات العنف لغة العصر، ووسيلة للتعامل بين الداخل والخارج،

وهذه فقرة من رأي جوليا كريستيفا عن أسباب انتشار العنف: "إن وسائل الإعلام تبث الرغبة بالموت هذه. اُنظر إلى الأفلام التي يحب الناس أن يشاهدوها بعد يوم طويل وشاق: أفلام الرعب أو الإثارة، أما عدا ذلك، فيعتبر مملا".

وتواصل الحديث "نحنُ مغرمون بهذا العنف. لذا، فإن العمل الأخلاقي العظيم الذي يتناول مشكلة الهوية إنما يُثبت هذه التجربة المؤقتة مع الموت، والحقد. إن القوميات، مثلها مثل الحركات الأصولية، إنما هي شاشات أمام هذا العنف، شاشات ضعيفة، شفافة وخادعة، لأنها تخفي ذلك الحقد فقط، وترسله إلى الآخر، إلى الجار، إلى الجماعات العرقية المتنافسة. إن العمل الأكبر الذي يجب على مدينتنا القيام به هو محاولة قتل هذا الحقد، دون اللجوء إلى قدرات أو قوى عُليا".

وهي ترى أن الكوارث ليست سياسية فقط، بل أخلاقية وروحية، وتعتبر حتى المشاكل الاقتصادية لا يمكن حلها دون التجديد الأخلاقي، فتقول: "تخيل كيف يكون الأمر لو كان على الناس أن تواجه سوقا اقتصاديا مبنيا على فكرة المنافسة الفردية، فيما شعورهم بقيمة الفردانية لا يزال ضعيفا جدا ومهزوزا وسهل الكسر، وحتى يقوى هذا الإحساس بالفردانية والاستقلالية والحرية، فإن الفرد بحاجة إلى دعم أخلاقي عظيم. لهذا السبب أنا أعتقد أن هذين الجانبين: الاقتصادي والأخلاقي، متصلان معا، وإني أعطي الأولوية للثورة الأخلاقية".

وأجمل ما قالته كحل لفكرة التمسك بالقوميات وأنها أصل كل المشاكل والعنف القائم والدائر والمهيج للحروب والمعارك، إن "فكرة الأمة سوف تعمر طويلا، لكنها يجب أن تكون خيارا، وليس انعكاسا أو عودة إلى الأصل. فعندما يعيشها المرء كخيار - بمعنى أن يعيشها بوضوح بالرؤية، مدركا للأسباب الأيديولوجية والسياسية والثقافية التي تجعلنا ننتمي إلى فرنسا وأيرلندا وبريطانيا العظمى... إلخ، وليس لأننا متصلون بها عن طريق الجينات- عندها يمكن أن تكون خيارا جيدا".

أتمنى أن يكون هناك حل لهذا العنف، الذي بات مظهرا وعنوانا لحياتنا اليومية حتى اعتدناه. اعتدنا وجوده بيننا، وطبيعي جدا أن نرى الدماء تغرق الساحات، وتكاد تنزف من شاشات القنوات التلفزيونية، دون أن يكون لنا دور قوي وفعال بإيقاف نزفها.