الثقافة سبيل إلى البناء والنماء والتكامل
في الخمسينيات، تعالت صيحات الديمقراطية أولاً والديمقراطية أخيراً، لنكتشف أخيراً أن انشغالنا الطويل بالسياسي والأيديولوجي، والذي كان على حساب الثقافي والاجتماعي، أوصلنا إلى طريق مسدود، وأنتج شخصيات متلونة تنادي بالديمقراطية وتمارس نقيضها .
مازلت أذكر تلك الكلمات البليغة المؤثرة التي شدّت أسماع وأفئدة الحضور في المؤتمر السنوي لمؤسسة الفكر العربي، في الصخيرات بالمغرب خلال ديسمبر 2014، والذي كان عنوانه "التكامل العربي: حلم الوحدة وواقع التقسيم". جاءت كلمات الأمير المثقف والشاعر خالد الفيصل، رئيس المؤسسة، معبرة عما في نفوس المجتمعين من آمال وطموحات إلى التكامل العربي، وطرح ما يواجهه من عقبات وتحديات، يعلقونها على شماعة المؤامرات... قال الأمير أمام ذلك الجمع الحاشد والمتحمس، تلك الكلمات القوية، التي أقتبس منها، قوله: "في كل زمان يقال: لم يمر على الأمة العربية أسوأ من هذه الحال، وتتهم المؤامرة، وتلعن الأسباب، وتستصرخ الصحراء، ويتعالى النداء! فتردد صداها الجبال، وعوضاً عن البناء والنماء، بنهج الحكمة والحكماء، ينشب الاقتتال بين الأخ وأخيه، ويتحسر الأب على مصير بنيه! وباسم الجهاد يقتل المسلم أخاه المسلم... وباسم الوطن يتشرد المواطن، وباسم الحرية تنتشر المهاجر، وتتكدس السجون، ويزهو اليعربي المغوار ببندقية، على جثة طفل عربي ضحية، وتَحار الأفهام، وتختلف الأقلام، فهل عادت الجاهلية؟ أم هي المؤامرة التي يدّعون؟ وكيف تكون؟ وهي مخرجات بحوث ودراسات تناقش في منتديات ومؤتمرات، وسياسات معلنة في الصحف والفضائيات؟!". إلى أن قال: "وها هي مؤسستكم، تبادر وتقدم (التكامل العربي) موضوعاً لمؤتمركم هذا... وتخصص كل العام القادم، لبحثه مع المؤسسات العربية المعنية، وفي مقدمتها الجامعة العربية". كان لهذه الكلمات صداها الإيجابي الواسع في الأوساط الإعلامية والثقافية. ومنذ مؤتمر الصخيرات 2014، مروراً بمؤتمر القاهرة 2015، وصولاً إلى مؤتمر السعديات، أبوظبي 2016، الذي نظم بالشراكة مع الجامعة العربية، جرت مياه كثيرة حول التكامل العربي، إذ خصص مؤتمر هذا العام لتسليط الأضواء على دراسة صيغتين تكامليتين متميزتين يجسدهما النموذج التعاوني الخليجي، والنموذج الاتحادي الإماراتي، كما تم إطلاق "التقرير العربي التاسع للتنمية الثقافية في دول مجلس التعاون"، وهو سفر ضخم، وعمل مميز غير مسبوق خليحياً، كما قال المدير العام، د. هنري العويط، بحق، مضيفاً: "إيماناً بموقع الثقافة الفاعل، وبدور المثقفين الحاسم في تطوير المجتمعات ورقيها"، كما يؤكد مقولة د. الرميحي المأثورة بأن "الخليج ليس نفطاً"، وليس فنادق وأبراجاً ومولات فارهة، بل الخليج حضارة وثقافة، وجدل فكري واجتماعي وإبداعي واستشرافي للمستقبل، طبقاً للدكتور علي الدين هلال.
وإذ أكد الأمير الفيصل أنه لا نهوض للأمة إلا بالتكامل الثقافي، ولا حضارة لأمة من دون ثقافة، وحتى السياسات والاقتصاد، لا يمكن أن تتحقق إلا من طريق الثقافة، التي تعد المعيار الحقيقي للتقدم، فإنه بذلك يثبت صحة رهان "مؤسسة الفكر العربي" على العمل الثقافي، سبيلاً للبناء والنماء والتكامل، منذ انطلاقها في بيروت 2000، عبر صيغة تضامنية بين الفكر والمال، تتبناها مؤسسة أهلية تستهدف الإسهام في النهضة والتضامن العربيين، وفي هذا السياق، تأتي الإنجازات الفكرية والثقافية المتنوعة للمؤسسة، سواء عبر مؤتمراتها السنوية التي أصبحت حاجة عربية تناقش قضايا وتحديات مصيرية، أو عبر إصداراتها الفكرية المختلفة، لتؤكد قضية جوهرية، هي أن العمل الثقافي والتنمية الثقافية أساس التقدم والنهوض والتكامل، فالثقافة أولاً، والثقافة أخيراً، هي رهان المستقبل، لقد انشغلت النخب العربية بالعمل السياسي والنضال في سبيل الوحدة والعدالة والديمقراطية، ولكن تجارب قرن من الزمان في العمل السياسي، لم توصلنا إلى النهضة المنشودة، ولا إلى التنمية والوحدة الموعودة. في الخمسينيات، تعالت صيحات الديمقراطية أولاً والديمقراطية أخيراً، لنكتشف مؤخراً أن انشغالنا الطويل بالسياسي والأيديولوجي، والذي كان على حساب الثقافي والاجتماعي، أوصلنا إلى طريق مسدود، وأنتج شخصيات متلونة تنادي بالديمقراطية وتمارس نقيضها في المجالات السياسية والثقافية والدينية! ولو أن نخبنا ركزت جهودها على تحقيق إنجازات ثقافة اجتماعية تراكمية، لأفرزت في النهاية تغييرات نوعية سلمية، وقَت مجتمعاتنا وأوطاننا، نوبات العنف التي تصاعدت وأجهضت كل الإنجازات النسبية التي تحققت في مرحلة الاستعمار، وبخاصة بعد أحداث الربيع العربي وتداعياتها التي عصفت بأركان الدولة الوطنية ومؤسساتها. ختاماً: كان ما يشبه الإجماع على أنه لا تنمية ولا تقدم ولا نهضة ولا تكامل إلا بفكر متجدد، وثقافة تستوعب المتغيرات، وتستشرف المستقبل، قادرة على مواجهة التحديات المقبلة.* كاتب قطري