لماذا اخترت «104 القاهرة» كعنوان لأحدث رواياتك؟تحمل الرواية دلالات كثيرة، وكانت لدي محاور عدة عندما قررت كتابتها. عادةً، عندما يبدأ الكاتب بتنفيذ مشروعه يتغيّر المسار بعض الشيء. ولكن أحياناً تأخذه الحكاية إلى طريق آخر. بدأت الفكرة عندما جالت في ذهني صورة الشخص الذي يملك قدرات خاصة، أو ما نطلق عليه لقب «شيخ» أو «ولي». كان لدي طوال الوقت هاجس أن تناول هذه الشخصية يأتي من منظورين، إما أن لدى الشيخ قدرات وكرامات فعلاً من ثم سيصدقه الناس، أو أنه شخص نصاب يستغلهم.
حاولت التفكير في كيفية رؤية هذا الشخص نفسه؟ وما هي علاقته بالمتغيرات التي تعطيه قوة في المجتمع، وكيف يتعامل معه الأخير عندما يجد لديه قدرات خاصة؟ اقتربت من هذا العالم خلال مرحلة دراستي الفن الشعبي على مستوياته المختلفة. أحببت التطرّق إليه من منظور الشخص نفسه وليس الآخرين، وكان جزء من حيلة الرواية أنني لا أفصح عن جدية صاحب الكرامات أو عدم جديته. ولكن جزءاً من اللعبة، أن البطلة عاشت وماتت وهي تجهل ما يحدث لها، فتصدق نفسها أحياناً، ولا تفعل أحياناً أخرى.لماذا استغرقت أكثر من أربع سنوات في كتابة «104 القاهرة»؟بدأت في كتابة الرواية عام 2008، ولكن مع ظرف قيام ثورة 25 يناير، تأخرت بعض الوقت ولم أكن أعطيها الاهتمام المطلوب. حاولت العودة إليها، وشعرت برغبتي في استكمال كتابتها، ولكني لم أستطع لانشغالي بالمشروع الثقافي «شبابيك» الذي أدرته واستغرق مني وقتاً طويلاً ومجهوداً كبيراً، لا سيما أنه يتسم بصعوبته لأنه يستوجب مسؤولية كبيرة وإدارة متأنية. وكان جزء من التحدي يكمن في رغبتي في العودة إلى حالة الإبداع، فاقتربت من المشايخ وأصحاب الكرامات وقرأت التاريخ، ما شكّل لدي حالة دفعتني إلى كتابة الرواية. تناول القاهرة كتاب كثر بداية من نجيب محفوظ مروراً بإبراهيم عبد المجيد وأخرين، فما الفرق الذي تطرحينه في نصك، وألم تخشي الدخول في مقارنة مع هؤلاء؟أحبّ مدينة القاهرة ولها مكانة خاصة لديّ. تولّد داخلي حب لكل مبنى وتفصيل فيها، سواء من مطالعتي أعمال نجيب محفوظ وخيري شلبي وأصلان وغيرهم أو من تجوالي فيها. في عملي، اخترت شخصيات قروية وشعبية ومعظمها من الدرب الأحمر حيث تجد الحرفيين وتتعرّف إلى حياتهم وإلى المدينة بغرائبيتها. أعتقد أن القاهرة مدينة ذهبية مغطاة بالتراب، وهي صنعت داخلي حالة خاصة. أخبرني بعض القراء بأنها بدت في الرواية المدينة العجوز الجميلة التي لم ينتقص منها الزمن أي أثار.
توقيع وجرأة
أقمت حفلات توقيع عدة للرواية خلال فترة وجيزة من صدورها، ربما يكون لهذا الأمر سلبياته لدى المتلقي. حفلات التوقيع هي احتفالية بالإصدار. يذهب البعض إليها لشراء الرواية لأن في مصر مشاكل في توزيع الكتب إذ لا تجدها في الأماكن كافة. وبالنسبة إليّ، التوقيع احتفال بمجهودي، وأقمت حفلات عدة للتسهيل على القراء لأن من الصعب التحرّك في القاهرة، ولأنني أرفض فكرة الازدحام في مكان واحد. عموماً، ليست لديّ مشكلة في تشكيل حراك ما في مكتبات مختلفة، ولا أعتقد أن لهذا الأمر سلبياته، خصوصاً أنني لم أتوقع أن للحفلة علاقة بمناقشة العمل، لا سيما أن حفلات كثيرة كانت تخلو من النقاد، ومن أحبني من الأصدقاء حضر للاحتفاء بي وبالعمل.في الفترة الأخيرة نلاحظ اهتماماً بالرواية على حساب القصة والشعر. هل ترين أن الزمن للرواية؟لم أسر في اتجاه كتابة الرواية فحسب، بل كتبت في القصة القصيرة والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع السياسي وترجمت بعض الكتب. عندما أحبّ جانباً ما أكتب به بغض النظر عما إذا كان موضة العصر أم لا. لكن الفكرة التي طرحتها في روايتي الجديدة لا تُكتب في قصة قصيرة، وكي أقدمها بأبعادها المختلفة قرأت في موضوعات كثيرة. جزء من العمل تشكّل من خلال قراءتي التصورات والمعتقدات المختلفة لدى الأجانب من إنكليز وألمان ومدى إيمانهم بها، إذ أردت كسر عقدة الخواجات والنظر إليهم باعتبارهم دائماً على صواب ونحن على خطأ، فلكل فرد أخطاؤه.يقال إن المرأة تلجأ إلى الجرأة للفت الانتباه إلى كتاباتها. ما هي حدود الجرأة لديك وإن كنا تلمسنا بعضاً منها في روايتك الجديدة؟موضوع الكتابة بالنسبة إلي ليس للفت الانتباه. أكتب ما أشعر بحاجتي إلى كتابته، لأني عشت مع أجانب، وكنت كمصرية أبدو كمدرس يجيب عن كثير من تساؤلاتهم حول المصريين وطبيعتهم وأفكارهم. لذا فكرة لفت الانتباه لم ترادوني. كذلك لم أركز في موضوع التابوهات نظراً إلى إقامتي فترة طويلة في الخارج، وأستغرب كثيراً محاكمة فرد على جملة لن تهدم الحياة، لأن جزءاً كبيراً مما تعلمته يكمن في احترام ثقافة المجتمع، فكيف أدعي بأنني شخص لديه قدر كبير من الحرية وفي الوقت ذاته أفرض على غيري وجهة نظري في العالم؟ في النهاية، هي منطقة شائكة جداً ولكنها لن تكون على هذا الشكل إذا كان الكاتب متسقاً مع ذاته.أنشأت مركزين ثقافيين «أبجدية» و{شبابيك»، لماذا لم يستمرا؟كان والدي شيخ أزهر وعضو مجمع البحوث الإسلامية، ولكنه كان مؤمناً بحرية الفكر والإبداع وكتب مقالات دفاعاً عن نجيب محفوظ عند مهاجمته بسبب رواية «أولاد حارتنا». وبالتأكيد هذه البيئة التي نشأت فيها أثرت في تكويني، فأن يدافع المثقفون عن أديب نوبل أمر مقبول ولكن بالنسبة إلى شيخ فالأمر مختلف. تربيت على فكرة أن الإسلام يحمل مساحات لحرية الفكر والإبداع، كان لدي إحساس بقدرتي على أكمال مسيرة والدي رحمه الله بافتتاح مراكز ثقافية، وكنت أرى أن هذا دور ضروري وسأُحاسب عليه إذا لم أقم به. كذلك تعرّفت إلى ثقافات وأديان وحضارات مختلفة، وكان لدي إحساس بضرورة خدمة الإنسان لأخيه الإنسان على عكس العنف والتطرف. وأعلم أنني مجرد ترس في عجلة ولكن لا بد من أداء دوري في القضية.للأسف، توقف المشروعان لأنني أسستهما بالحلم والرومانسية فيما أي مشروع يحتاج إلى عقل تجاري يجيد فن الإدارة، فضلاً عن أن افتتاح «شبابيك» تزامن مع الثورة في مصر وكان البلد غير مستقر والوضع المادي متأرجحاً. ولكني رغم ذلك كنت شغوفة بفكرة الحلم، ذلك الحلم الذي كان أكبر من حسابات العقل.المدينة العتيقة
في روايتها «104 القاهرة»، تسير ضحى عاصي في المنطقة المكانية التي سبقها إليها كبار كتاب الرواية في مصر نجيب محفوظ وخيري شلبي وإبراهيم أصلان، لكنها تقدم العالم من وجهة نظر جديدة ومختلفة.قال عنها الأديب إبراهيم عبد المجيد إنها في روايتها تمرّدت على أشكال الجمود كافة، وحررت السرد والبناء من البلاغة التقليدية، ذلك في سبيل أن تبني روايتها بناء رائعاً ومدهشاً سعياً منها إلى مخاطبة أرواح البشر والمكان.والرواية تعتبر عملاً إبداعياً يتميّز بحيوية السرد، فهي تجذب القارئ منذ صفحاتها الأولى ببساطة مدهشة، وتجعله يستغرق في عالم مترابط من الشخصيات النابضة القريبة.تقدم ضحى لوحة اجتماعية شديدة التشابك والكثافة، تكشف الحياة الاجتماعية المصرية منذ خمسينيات القرن الماضي حتى العقد الأول من القرن الحالي، وتصهر ثقافات الأولياء والمتصوفة مع عالم الحكمة والفلسفة اليونانية، فضلاً عن حضارات التبت ووصفات السحر الشعبي، تلك العوالم، التي من خلال تفاصيلها، تقودك إلى فلسفة الطبيعة الإنسانية الممزوجة حتماً ما بين عالم الروحانيات وأرض الواقع... ما بين المتمنى والمتاح».ضحى عاصي درست الطب في موسكو وتجيد الروسية والفرنسية والإنكليزية. تنتمي إلى جيل الألفية الثالثة ويشغلها الهم الإنساني في كتاباتها، أصدرت سابقاً مجموعتين قصصيتين هما: «فنجان قهوة» و»سعادة السوبر ماركت».