يستحق الرئيس التركي إردوغان وبجدارة أن يلقب بـ"موحد الأيديولوجيات"، الأيديولوجيات العربية تحديداً، وكلكم يعلم أن الأيديولوجيات العربية كالليبرالية والإسلامية واليسارية اتفقت على ألا تتفق، وبينها خلاف ذو بأس شديد و"جامد" من ألف بابا نويل إلى ياء بابا غنوج مروراً بمثاليات السياسة وانتهاء بمثليي البشر، ولكن هذا الجورجي المتربع على عرش الأناضول جعل، وعلى غير العادة، المشرقي الليبرالي يجتمع مع اليساري المغربي بضيافة حيص بيص الإسلاميين، ليتحلقوا جميعا حول وليمة الهجوم الدسم والضاري عليه! فسبحان من جمع شتات الأيديولوجيات بعدما ظننّا كل الظن أن لا تلاقيا! إردوغان رئيس منتخب جاء من رحم الصناديق وبانتخابات شهد العالم بنزاهتها، وهو بعظمة لسانه قال إنه يحكم دولة علمانية، والانتخابات والعلمانية وما بينهما من حريات وإرادة شعبية ومبادئ دستورية تعتبر جوهر مطالبات الليبراليين، ولكن رغم هذا قلما تجد ليبرالياً ينظر بعين الرضا لإردوغان ونظامه!
إردوغان حسّن ظروف الأرياف والعمال وجعلهم على سطور الحياة، بعد أن كان الريف على هامش اهتمامات الدولة التركية، يعاني سوء الخدمات وسوء منقلب حقوقه الوطنية، وأهل الريف والعمال أو "البروليتاريا" بحسب التعريف الاشتراكي هم جمهور إردوغان الأكبر، فقد اكتسج الريف خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة وبصورة "نعم" لا تقبل القسمة على صندوقين، وأيضا رغم هذا لا يرضى عنه اليساريون، وينظرون له بعين الريبة رغم أنف سعادة البروليتاريا محبوبة إردوغان وسر نجاحه. إردوغان أكثر من ساعد الشعب السوري، وكل خطبه وتصريحاته تكون بنكهة الخطاب الإسلامي، كما أن حزبه ذو توجه إسلامي واضح، والرجل حرص طوال مسيرته على نفض الغبار عن آخر خلافة إسلامية حكمت الشرق-الخلافة العثمانية- وأعاد الروح لتاريخها، والخلافة وتبني قضايا الشعوب الإسلامية، بالإضافة للقافية الإسلامية في الخطاب هي جل مبشرات الإسلاميين، وذروة سنام أدبياتهم، ولكن أيضا أغلب الإسلاميين يرون إردوغان المسيح الدجال للأيديولوجيا الإسلامية، وقلما يمدحونه أو يدافعون عنه، طبعا باستثناء الإخوان المسلمين الذين لهم فيه مآرب أخرى، أما قصة إخوانية إردوغان وحزبه فهي من خزعبلات السوشيال ميديا، فالمتابع للتاريخ يعلم أن التجربة الإسلامية في تركيا تجربة تركية خاصة وفريدة، وهي أقدم بكثير وأكبر من أن يحويها فكر الإخوان أو غيرهم رغم تقاطع بعض خطوط المصالح بينهم.لا أخفيكم علماً بحثت كثيرا عن سر هذا الاتفاق الأيديولوجي الشذري مذري حول إردوغان فوجدت أن هذه الأيديولوجيات العربية رغم اختلاف أسباب كرهها لإردوغان وحّدها شيء واحد فقط، وهو "النموذج الإردوغاني في تركيا". النموذج التركي الإردوغاني مرعب فعلا لكل الأيديولوجيات العربية، فهو ينسف الجمل الليبرالية واليسارية الكبرى التي تجعل تجارب الغرب الليبرالية والشرق الاشتراكية قبلتها الأولى ومحرابها الأوحد، التجربة الإردوغانية نسفت الخطاب الليبرالي واليساري ونبذته في يمّ واقع شاهدنا فيه كيف تطورت تركيا بتجربة نابعة من ذات الشعب، وكيف صعدت اقتصاديا ودستوريا عبر ديمقراطية كاملة الدسم تدعمها الجماهير المسحوقة وبقيادة حزب إسلامي، هذا النموذج ذاته هو من أرعب الإسلاميبن أيضا لأنه يخرج النظرية الإسلامية في الحكم إلى التطبيق، في حين هم يريدون من النظرية أن تقر في بيتها إلى أن يأتي فارس الأحلام على حصان التاريخ، فيخطفها نحو "قصر نظر تاريخي" مشيد في بطون الكتب، بعيداً عن سهول الواقع، ليعيشا بسبات ونبات ويخلفوا قصص وروايات ومحاضرات وخطب!
مقالات
خارج السرب: إردوغان موحد الأيديولوجيات
28-12-2016