كتب الأستاذ "الأثري" في مجلة البدائع العراقية، خلال العهد الملكي، مهاجماً أنصار السفور: "ها أنتم أولاء تتظاهرون بنصرتها والدفاع عنها... بينما السيدات الفاضلات المصونات يتبرأن من ثرثرتكم ونقيقكم، ويبرأن إلى الله من التبرج والسفور ومن كل من يدعو إلى الخلاعة والفجور، ويعددن الحجاب نعمة... ألقوا حبل نسائكم على غاربهن ودعوهن سافرات، ودعونا نفعل بهن ما نشاء".

وكان "محمد رشيد رضا" يتهمهم بأنهم "يحبون التمتع والتلذذ بمحاسن النساء، وكلما زاد السفور والتبرج زاد استلذاذهم".

Ad

أما "توفيق الفكيكي"، يقول "العمري"، فقد حبّر مقالات كثيرة في نبذ السفور واعتباره لونا من ألوان التبرج، وطالب أنصار السفور بأن يأخذوا العبرة من البلدان الأوروبية الصناعية "الذين نزلت عليهم الآفات الاجتماعية والسياسية بسبب الحرية المطلقة النسائية". وكذلك حضارة الرومان "حينما أطلقوا الحرية المفرطة لبنات الخدر"، وكذلك الدولة العباسية التي "لم يقرضها من خريطة الوجود إلا ترف ملوكها بالجواري والحور الحسان من النساء".

ولم يقف السفوريون أمام هذه الحملات العنيفة موقفا سلبياً، وإنما ثبتوا أمامها بجرأة وشجاعة، فكتب سامي شوكت، وكان يوقع مقالاته باسم الطبيب الاجتماعي، يقول: إن المطالبين ببقاء تستر المرأة وأسرها يكون طلبهم منطقيا أزيد ومعقولا أكثر إذا ما طلبوا إلغاء التعليم ورفع التهذيب والبقاء على الحالة الهمجية".

وتهكمت "فتاة غسان" قائلة: "يقول أولئك المستبدون إن البرقع والحجاب ليس معناه الأسر... فأرجو منهم أن يجربوا ولو أسبوعا واحدا بل يوما واحداً، ويتفضلوا بوضع البرقع الأسود المعلوم على وجوههم، ويلبسوا العباءتين المعهودتين على أكتافهم وفوق رؤوسهم، لماذا لم نسمع من هؤلاء تذمرا من أفعال سعد زغلول باشا حين تأبط زوجته وألبسها البرنيطة، وذهب بها إلى العواصم الأوروبية، ومن حركات مصطفى كمال باشا– أتاتورك– الذي لا يفتتح مجلس الأمة الكبير إلا ولطيفة هانم زوجته عن يمينه؟".

وردّ كاتب على تهكم فتاة غسان، مخاطبا إياها: "حنانيك... أراك تريدين قلب النظم الاجتماعية والشرائع"! وقال ساخراً: "أعيري عباءتك وبرقعك للفكيكي لنرى صدق دعواك، فنرى الفكيكي ببرقعه ونراك سافرة، ونقول سبحان الذي يغير ولا يتغير".

وتحمس كاتب آخر ضد الحجاب فكتب: "الحجاب يا سيدي من العوائد- أي العادات– القديمة البالية التي ابتليت بها هذه الأمة، والتي يجب أن نسعى للتخلص منها، فهي عادة عرضية لا محذور في إزالتها".

واحتدمت المعركة وحمي وطيسها والتهبت نارها، وتبودلت الألقاب الساخرة مثل "صبي بغداد"، و"الشيخ فحل"، وكان الشاعر الرصافي في مجالسه الخاصة يلقب الأستاذ بهجت الأثري بـ"بوليس السماء" باعتباره لا يدع مناسبة تمر إلا وينبري للدفاع عن الشريعة الغرّاء.

اتسع ميدان "معركة السفور" في العراق، من مجال الصحف إلى مجالات أخرى، بما في ذلك كلية الحقوق، وإلى جانب اهتمام الطلبة بالقضية، لم يخفِ بعض الأساتذة في أروقة الكليات آراءهم حولها، فالأستاذ "يوسف عطا" أستاذ الأحوال الشخصة، يقول الباحث العمري، كان "يبش بوجه الحجابيين ويربّت على أكتافهم مشجعاً ومباركاً ويعبس بوجه السفوريين ولا يدع مناسبة تمر به أثناء المحاضرة إلا ويسفّه آراءهم، وإذا تصدى له واحد منهم بسؤال ثار وغضب وعربد".

كما عرف عن "رشيد عالي الكيلاني"، أستاذ مادة العقوبات في كلية الحقوق، وهو نفسه الذي قاد حركة 1941 المعروفة، ميله إلى الحجاب ونفوره من السفور، في حين عرف عن "رؤوف الجادرجي"، أستاذ القانون الدولي، و"حكمت سليمان" أستاذ المالية و"توفيق السويدي" أستاذ القانون الروماني، عطف على السفور.

على أن صدى هذه الدعوة في الأوساط الدينية كان قد بلغ الغاية في العنف، فقد أسرع وعاظ الجوامع يعلنون من فوق المنابر حرباً شديدة عليها، فكفّروا دعاتها ورفعوا البيانات والتواقيع ضدهم، وأصدروا الفتاوى بحقهم، بل اسبتاح بعضهم دماءهم، واعتبر مقاومة دعوتهم لوناً من ألوان الجهاد في سبيل الإسلام، وقد تعرض أحد الأبرياء في جانب الكرخ إلى محاولة قتل عندما رماه أحد "المجاهدين" بعدة طلقات نارية، وهو يحسبه "عوني بكر صدقي" أحد أنصار السفور. وقد نجا هذا الرجل من رصاص المجاهد بأعجوبة، وعندما انتشر الخبر تمنى بعض أنصار السفور لو أصابت هذه الطلقات واحدا من السفوريين، واستشهد في سبيل مبدئه، إذاً لكان لدعوتكم وقع أكبر ودوي أبعد.

وفي نوفمبر 1924 ظهر ناد جديد باسم "نادي النهضة النسائية"، وساهمت في حفل الافتتاح بعض النساء البريطانيات مثل زوجة المندوب السامي وسكرتيرة دار الاعتماد، إلى جانب السيدات العراقيات، ومنهن "أسماء الزهاوي"، شقيقة الشاعر "جميل صدقي الزهاوي" وكانت رئيسة النادي، و"ماري عبد المسيح وزير" و"فخرية العسكري" ولكن النادي سرعان ما تحول في رأي البعض إلى "محل لشرب الشاي"! ورغم الضجة المضادة للنادي فإنه كان محافظاً، حيث إنه "لم يكن بين المسلمات من أعضاء النادي من لا تضع على وجهها الحجاب المتعارف عليه في بغداد، ولم يرغب النادي في السفور على الرغم من طلب كثيرات من الأعضاء ذلك، محتجات بالشكل الواهي الذي وصل إليه الحجاب".

وأمام ذلك الهجوم العنيف دافعت عضوات النادي عن أنفسهن معلنات بأن غايتهن "تهذيب عدد من اليتيمات وتسهيل اجتماع منشدات الرقي من النساء"، وقد تم تسجيل النادي وباشر نشاطه، غير أنه تراجع شيئا فشيئاً فقلّت محاضراته وتباعدت المدد بينها، كما أُهمل دفع الاشتراك وكان خمس روبيات، وقلّ حضور الأعضاء، وهكذا ترك النادي مقره وتخلى عن الأيتام.

لم تجمع أهداف واضحة فيما يبدو عضوات النادي، ولا آراء متقاربة، وعندما أبدت إحداهن إعجابها بالمرأة التركية كنموذج تقتدي به المرأة العراقية، اعترضت العضوة "صبيحة الشيخ أحمد" وقالت إن المرأة العراقية "تنظر إلى المرأة التركية بنظر الانتقاد لا بنظر التقدير والإعجاب"، وأخذت تغمز من قناة المرأة التركية وتقول: "فالمرأة التركية شديدة الشغف بالظهور بمظهر الدلاعة الأوروبية والتزيي بزي الأجنبي دون الاهتمام بكيان الأسرة ودون النظر إلى التقاليد القومية المحترمة ودون افتكار بالرصانة والرزانة".

ثم أضافت السيدة صبيحة قائلة: "أصبحت المرأة العراقية بفضل جهودها وجهود مناصريها ذات كيان محترم وشخصية لها مكانتها، وهي ربة البيت المسيطرة على شؤون العائلة، وهي التي تسيطر على أفراد الأسرة رجالاً ونساء".

وأثارت هذه الآراء الأديب البصري "محمد محمود"، فأسرع يقول معلقاً: "أنا أقرأ هذا كخبر عجيب: فلست أعلم أن للمرأة المسلمة من الحقوق مثل الذي تنعتها به الآنسة يا للعجب... إذاً فالمرأة العراقية أرقّ من المرأة التركية بل من الأوروبية هذا منتهى الإسراف يا سيدتي المحترمة".

وهكذا يبدو أن عضوات النادي كنّ ينقسمن إلى تيارين: الأول السيدات والفتيات المثقفات ثقافة تركية، وهن يؤلفن الجانب الأكثر اتصالا بمظاهر الحضارة الحديثة بحكم ثقافتهن وتربيتهن التركية، والثاني يتمثل بالسيدات المتعلمات تعليما عربياً إسلامياً.

حاول بعض الكتّاب أن يحسم الجدل، مثل "فهمي المدرس"، بالتوفيق بين دعاة السفور والحجاب إلا أنه لم يفلح، وأخذ بعض أنصار السفور فيما بعد ينادون على صفحات جريدة "العراق" بإلغاء المحاكم الشرعية، وسنّ قانون مدني جديد ينظم الأحوال الشخصية على قواعد تساير روح العصر، على نحو ما استقرت عليه الحال في تركيا بعد الحركة الكمالية، فأجفل المحافظون لهذه البادرة الجريئة وطار صوابهم لها، وأخذوا يستميتون في مطاردة دعاة التجديد، تارة بالتهديد وطورا بالإرهاب حتى اضطر أحد أنصارهم أن يلجأ إلى القضاء، طالبا حمايته من زعيم المحافظين المرحوم "يوسف العطا"، بحجة أنه يحرض الغوغاء على قتله.

لم يقف نشاط المحافظين عند هذا الحد، يقول "العمري"، بل كان الملك فيصل الأول يستقبل في بلاطه وفوداً لا ينقطع سيلها منهم، ليصغي إلى احتجاجاتهم، وكان ديوان مجلس الوزراء وديوان وزارة الداخلية يغصان بمجموع منهم تخفُّ إلى مقابلة "ياسين الهاشمي" رئيس الوزراء، ومواجهة "عبدالمحسن السعدون" وزير الداخلية، لترفع إلى كل منهما المضابط الاحتجاجية، ولتحثهما على تأديب هذه الزمرة. ولعل من الطريف أن نذكر أن المجلس البلدي في بغداد انساق وراء هذا التيار، فأصدر هو الآخر قراراً يستنكر فيه الدعوة إلى السفور، ويطلب إلى الحكومة اتخاذ ما يلزم من الإجراءات لإيقاف هذه الزمرة عند حدها، وكانت الانتخابات النيابية لتأليف أول مجلس نيابي على الأبواب.