عصر ترامب

نشر في 29-12-2016
آخر تحديث 29-12-2016 | 00:25
 بروجيكت سنديكيت في العشرين من يناير 2017، سيُنَصَّب دونالد ترامب بوصفه الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة، وأكره أن أقول «ألم أقل لكم؟»، ولكن ما كان ينبغي لنا أن نفاجأ بانتخابه، فكما شرحت في كتابي الذي صدر في عام 2002 بعنوان «العولمة ومنغصاتها»، تسببت السياسات التي استخدمناها لإدارة العولمة في نثر بذور الاستياء والسخط على نطاق واسع، ومن عجيب المفارقات أن مرشح الحزب الذي مارس الضغوط الشديدة لفرض التكامل الدولي على الصعيدين المالي والتجاري لم يفز إلا على وعد التراجع عن كل هذا.

ولكن لا مجال للعودة إلى الوراء بطبيعة الحال، فقد اندمجت الصين والهند الآن في الاقتصاد العالمي، ويعمل الإبداع التكنولوجي على الحد من عدد الوظائف في قطاعات التصنيع في مختلف أنحاء العالم، ولا يستطيع ترامب أن يخلق وظائف التصنيع المجزية الأجر التي كانت في العقود المنصرمة؛ فهو لا يملك سوى الدفع في اتجاه التصنيع المتقدم، والذي يتطلب مجموعة من المهارات الأعلى ويوظف أعداداً أقل من البشر.

في الوقت نفسه ستستمر فجوة التفاوت المتزايدة الاتساع في تعظيم اليأس على نطاق واسع، وخصوصاً بين الناخبين من ذوي البشرة البيضاء في وسط أميركا والذين سلموا النصر لترامب، وكما أظهر الخبيران الاقتصاديان آن كيس وأنجوس ديتون في دراستهما التي نشرت في ديسمبر 2015، فإن متوسط العمر المتوقع بين الأميركيين من ذوي البشرة البيضاء في منتصف العمر آخذ في الانخفاض، في حين ترتفع معدلات الانتحار وتعاطي المخدرات والكحوليات. وبعد عام واحد ذكر تقرير صادر عن المركز الوطني للإحصاءات الصحية أن متوسط العمر المتوقع في البلاد ككل انحدر للمرة الأولى منذ أكثر من عشرين عاماً.

في السنوات الثلاث الأولى من التعافي المزعوم بعد الأزمة المالية التي اندلعت عام 2008، ذهب نحو 91 في المئة من المكاسب إلى أعلى 1 في المئة دخلا بين أصحاب الدخول، وفي حين جرى إنقاذ بنوك وول ستريت باستخدام مليارات الدولارات من أموال دافعي الضرائب، فلم يحصل أصحاب المساكن إلا على مبالغ زهيدة، ولم يكتف الرئيس باراك أوباما بإنقاذ البنوك، بل أنقذ أيضاً المصرفيين والمساهمين وحاملي السندات، وكسر فريقه من مستشاري السياسات الاقتصادية من داخل وول ستريت قواعد الرأسمالية لإنقاذ النخبة، على النحو الذي أكَّد شكوك الملايين من الأميركيين في ما يتصل بالتلاعب بالنظام، كما يقول ترامب.

الواقع أن أوباما جلب بعض التغيير الذي «يمكنك أن تثق به» في ما يتصل بقضايا بعينها، مثل سياسة المناخ؛ ولكنه عندما تعلق الأمر بالاقتصاد، عمل على تعزيز الوضع الراهن؛ تجربة دامت ثلاثين عاماً مع النيوليبرالية، التي وعدت بتقاطر فوائد العولمة وتحرير التجارة إلى الأسفل، لكي تعم على الجميع. ولكن ما حدث في حقيقة الأمر هو أن الفوائد جرى امتصاصها إلى الأعلى، وهو ما يرجع جزئيا إلى النظام السياسي الذي يبدو الآن قائما على مبدأ «دولار واحد، صوت واحد»، بدلا من «شخص واحد، صوت واحد».

الواقع أن اتساع فجوة التفاوت، والنظام السياسي غير العادل، والحكومة التي تحدثت وكأنها تعمل من أجل الناس في حين عملت لمصالح النخب، جميعها عوامل ساعدت في خلق الظروف المثالية للاستغلال من قِبَل مرشح مثل ترامب. ومن الواضح أن ترامب على الرغم من الثروة التي يتمتع بها، ليس عضواً في النخبة التقليدية، وهو ما أضفى المصداقية على وعده بإحداث تغيير «حقيقي»، ومع ذلك سيستمر العمل كالمعتاد في ظل ترامب، الذي سيلتزم بعقيدة الجمهوريين بشأن الضرائب، ومن خلال تعيين أفراد من جماعات الضغط ومن داخل القطاع الصناعي في إدارته، أخلف ترامب بالفعل وعده «بتجفيف المستنقع» في واشنطن العاصمة.

وستعتمد بقية أجندة ترامب الاقتصادية إلى حد كبير على ما إذا كان رئيس مجلس النواب بول ريان محافظاً حقيقياً على المستوى المالي، فقد اقترح ترامب الجمع بين التخفيضات الضريبية الكبيرة لمصلحة الأثرياء وبرامج الإنفاق الضخمة على مشاريع البنية الأساسية، وهو ما من شأنه أن يعمل على تعزيز الناتج المحلي الإجمالي وتحسين الموقف المالي للحكومة بعض الشيء، ولكن ليس إلى الحد الذي يرجوه أنصار جانب العرض، فإذا لم يكن ريان مهتماً بحجم العجز كما يزعم فسيصدق على أجندة ترامب، وسيتلقى الاقتصاد الحوافز المالية التي نادى بها جون ماينارد كينز، والتي كان في احتياج إليها منذ فترة طويلة.

ويتعلق مصدر آخر لعدم اليقين بالسياسة النقدية، فقد تحدث ترامب بالفعل ضد أسعار الفائدة المنخفضة، وهناك مقعدان شاغران الآن في مجلس محافظي بنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي، أضف إلى هذا العدد الضخم من مسؤولي بنك الاحتياطي الفدرالي الذين يتوقون إلى تطبيع أسعار الفائدة، ومن المعقول أن نقول إنهم سيفعلون ذلك، وربما يعادل هذا تأثير حوافز ترامب الكينزية ويتجاوزها.

وستتقوض سياسات ترامب الداعمة للنمو أيضاً إذا تسبب في تفاقم فجوة التفاوت بفِعل مقترحاته الضريبية، أو إذا بدأ حرباً تجارية، أو تخلى عن التزامات أميركا بالحد من الانبعاثات الغازية المسببة للاحتباس الحراري العالمي، (وخصوصاً إذا انتقم آخرون بفرض الضرائب عبر الحدود). الآن يسيطر الجمهوريون على البيت الأبيض ومجلسي الكونغرس، وسيتمتعون بقدر نسبي من الحرية في إضعاف قوة العمال التفاوضية، وإلغاء القيود التنظيمية المفروضة على وول ستريت وغير ذلك من الصناعات، وغض الطرف عن قوانين مكافحة الاحتكار القائمة، وكل هذا من شأنه أن يخلق المزيد من التفاوت.

وإذا نفذ ترامب التهديد الذي أطلقه خلال حملته الانتخابية بفرض رسوم جمركية على الواردات الصينية، فمن المحتمل أن يتكبد الاقتصاد الأميركي أضراراً أعظم من تلك التي قد تتكبدها الصين، فبموجب إطار منظمة التجارة العالمية الحالي، في مقابل كل رسوم «غير قانونية» تفرضها الولايات المتحدة، تستطيع الصين أن ترد في أي مكان من اختيارها، مثل استخدام القيود التجارية لاستهداف الوظائف في المناطق التي يمثلها أعضاء الكونغرس الذين يدعمون الرسوم الأميركية.

من المؤكد أن التدابير المتخذة ضد الصين والمسموح بها بموجب إطار منظمة التجارة العالمية، مثل رسوم مكافحة الإغراق، ربما تكون مبررة في بعض المناطق، ولكن ترامب لم يتحدث عن أي مبادئ توجيهية للسياسة التجارية، وبهذا تُصبِح الولايات المتحدة -التي تدعم بشكل مباشر صناعة السيارات وصناعة الطائرات، وتدعم بشكل غير مباشر بنوكها من خلال أسعار الفائدة الشديدة الانخفاض- أشبه بمن يلقي الحجارة على الناس من منزله الزجاجي. وبمجرد أن تبدأ لعبة العين بالعين هذه، فقد تنتهي إلى تدمير النظام الدولي المفتوح الذي نشأ منذ الحرب العالمية الثانية.

وعلى نحو مماثل قد يصبح حكم القانون الدولي، الذي تعززه في الأساس العقوبات الاقتصادية، في حال شديدة السوء في ظل ترامب، فكيف قد يستجيب الرئيس الجديد إذا عملت القوات الموالية لروسيا على تصعيد الصراع في شرق أوكرانيا؟ كانت قوة أميركا الحقيقية مستمدة دوما من مكانتها كدولة ديمقراطية شاملة، ولكن الناس في مختلف أنحاء العالم فقدوا الثقة الآن بالعملية الديمقراطية. والواقع أنني سمعت في مختلف أنحاء إفريقيا تعليقات مثل «ترامب يجعل حكامنا المستبدين يظهرون بمظهر طيب». ومع استمرار تآكل قوة أميركا الناعمة في عام 2017 وما بعده، يُصبِح مستقبل النظام الدولي أكثر غموضاً.

من ناحية أخرى، سيُجري الحزب الديمقراطي بكل تأكيد تحليل ما بعد الانتخابات، ولا شك في أن هيلاري كلينتون خسرت لأنها فشلت في تقديم رؤية مقنعة للناخبين تختلف عن الأجندة النيوليبرالية التي تبناها بِيل كلينتون في تسعينيات القرن الماضي، فبعد أن لاحق استراتيجية سياسية ثلاثية تتلخص في تبني نُسَخ من سياسات خصومه لم يعد الحزب قادراً على تمثيل نفسه كبديل جدير بالثقة لحزب اليمين لأكثر من جيل كامل.

لن يحظى الديمقراطيون بأي مستقبل إلا برفض النيوليبرالية وتبني السياسات التقدمية التي اقترحها زعماء مثل إليزابيت وارِن، وبيرني ساندرز، وشيرود براون، فهي كفيلة بوضعهم في موقف قوي في مواجهة الجمهوريين، الذين سيضطرون إلى التوصل إلى الكيفية التي يمكنهم بها إدارة التحالف بين المسيحيين الإنجيليين، ومسؤولي الشركات التنفيذيين، والانعزاليين. مع وصول ترامب وحرص كل من الحزبين الرئيسين الآن على إعادة تعريف نفسه، فربما يتذكر الناس العام المقبل باعتباره نقطة تحول في تاريخ الولايات المتحدة والعالم.

* جوزيف ستيغليتز | Joseph Stiglitz ، حائز جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، وأستاذ في جامعة كولومبيا، وكبير خبراء الاقتصاد في معهد روزفلت.

«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top