منذ ما يقرب من العام دخلت السينما العربية معترك الحرب على التنظيم المسمى «داعش»، وقدّمت فيلم «الصراط المستقيم» (لبنان/ سويسرا 2015)، الذي انفرد مهرجان الأقصر للسينما العربية والأوروبية، في دورته الرابعة (30 يناير – 5 فبراير 2016)، بعرضه الأول في مصر. ولم تتمثّل أهميته في كونه الفيلم الروائي الأول في العالم الذي يرصد على الشاشة الأهوال والفظائع والجرائم التي يرتكبها التنظيم، وتسيء إلى صورة المسلمين، وتشوّه الدين الإسلامي، وإنما في جدة فكرته، وجرأة طرحه، ووصوله إلى أقصى درجات التكثيف والإيجاز والاختزال!

بعد «الصراط المستقيم» أتاح لي تنقلي بين أكثر من مهرجان فرصة التعرف إلى أفلام أخرى نجحت في إحداث الصدمة، وإثارة الخوف، وحذرت من الأخطار الجسيمة التي تنتظر المنطقة، والعالم، في حال بقاء «التنظيم» على قيد الحياة، وإن تفاوتت أهميتها، وجودتها، من فيلم إلى آخر، كما رأينا في السوري «فانية وتتبدد» إخراج نجدة أنزور، والجزائري «الطريق إلى إسطنبول» إخراج رشيد بو شارب، والعراقي «جوان» إخراج علي الجابري، والتونسي «خسوف» إخراج الفاضل الجزايري!

Ad

بدأت رحلة كشف المستور في «الظاهرة الداعشية»، ثم كان من الطبيعي أن تتواصل «عملية» فضح الأكذوبة وتعريتها، بدلاً من تركها تتسع وتتمدّد في عقول البسطاء، وهو ما تابعناه في الدورة الثالثة عشرة لمهرجان دبي السينمائي الدولي (7 – 14 ديسمبر 2016) من خلال الفيلم الروائي الطويل «العاصفة السوداء» (العراق، ألمانيا وقطر/ 92 دقيقة) إخراج الكردي حسين حسن، والفيلم الروائي القصير «أبراهام» (العراق، ألمانيا وإيطاليا/ 8 دقائق) سيناريو علي كريم عبيد وإخراجه. ونظراً إلى أن الفيلم الطويل استحوذ، كالعادة، على الاهتمام، وأفردت أكثر من مطبوعة مساحة كبيرة للحديث عنه، وعن مضمونه، وتوجهه، بينما لم يلتفت أحد إلى الفيلم القصير «أبراهام»، رغم أن مسابقة «المهر الخليجي القصير» شهدت العرض الأول له في العالم فإن حديثي سيكون مقصوراً عليه!

تبدأ أحداث «أبراهام» برجال يتحفظون على عائلة نُدرك، من الصليب المُعلق في الخلفية، أنها تعتنق الديانة المسيحية، وأن الرجال، الذين تكتسي وجوه بعضهم بملامح أجنبية، من المنتمين إلى تنظيم «داعش»، الذي أجبر غير المسلمين على دفع «الجزية»، وفي اللحظة التي جاء زبانيته لتحصيل «الجزية» يكتشف أحدهم وجود فتاة وشاب فيسأل عن المبرر وراء وجودهما معاً في مكان واحد، ورغم أنهما شقيقان إلا أن رب العائلة يخشى أن تؤخذ الفتاة باعتبارها سَبيّة، وتُباع في أسواق نخاسة «داعش»، فيزعم أنهما زوجان. وفي اللحظة التي يسود اعتقاد بأن الحيلة انطلت على الزبانية، يُجري أحدهم اتصالاً هاتفياً بأحد قادته ليتثبت من أقوال الأب فينصحه «قائده» بأن يطالبهما بإتمام الممارسة الزوجية الحميمة على مرأى ومسمع منه، وأمام كاميرا الفيديو التي أعدها لتصويرهما. لكن الشاب تسعفه بديهته، ويخبره بأن الأديان السماوية لا تجيز للرجل أن يكاشف أصدقاءه ومعارفه وأقاربه بنية مجامعة زوجته، كما تحضّ على التكتم على العلاقة، حتى لو كان الزواج أمراً شرعياً ومباحاً، لأنها مسألة ينبغي أن تحاط بالسرية. وبعدما تتحوّل المناقشة إلى ما يُشبه المناظرة، وكلٌّ يزيد بما تجود عليه قريحته، يعود الإرهابي من جديد ليأخذ بنصيحة قادته، الذين يُطالبونه بتوفير خلوة للشاب والفتاة. فعلاً، يدخل الأخ وشقيقته إحدى الغرف الجانبية، بينما يعود الأب إلى أحد القساوسة طالباً نصيحته، وعلى طريقة «وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم»، التي نطق بها الشيخ العطار مبروك ليحلل الحرام في فيلم «الزوجة الثانية»، لا يمانع القس في تنفيذ أمر «الدواعش». لكن الفتاة تختار أن تضع حداً لحياتها... وتنتحر!

نهاية مأساوية تُعد الأكثر قسوة، والأعمق تأثيراً في النفس، من مجمل الفظائع التي حملتها إلينا المواقع الإلكترونية، والأفلام، التي تناولت «الظاهرة الداعشية»، وأثارت جدلاً لم ينته، لدى من أتاحت لهم الظروف مشاهدتها على الشاشة، خصوصاً فيلم «أبراهام»، الذي كتبه علي كريم عبيد وأخرجه، وأنتجه مع جوليا جورجي، تناول انعكاسات الظاهرة على المسيحيين، وهي زاوية غير مطروقة، وإن سبق للمخرج السوري نجدة أنزور أن اقترب منها في «فانية وتتبدد»، ونجح في تكثيف رسالته، عبر المكان الواحد الذي لم تخرج منه الكاميرا (تصوير: ماتيو دي إنگليز) والقطعات القليلة الناعمة (مونتاج: فيكتور روزاليني سباسيك) والموسيقى المعبرة عن الحدث (موسيقى: أليساندرو دي مايو) والتمثيل السلس المقنع من دون افتعال أو مبالغة من أبطال الفيلم: سارا إل ديبوش، محمد زواوي، وولف لايبا، باسل آل علي وفيصل داسر.