كيف تنجح أمة تملك جزءاً ضئيلاً من قوة الولايات المتحدة المذهلة في فرض مشيئتها في الشرق الأوسط وشرق أوروبا وتشكك في شرعية الديمقراطية الأميركية، معززة الخلافات والانقسامات في هذه القوة العظمى المنقسمة أساساً؟ وكيف فازت روسيا؟

خلال ولاية أوباما الثانية توالت النجاحات الروسية بوتيرة كبيرة، مما يبرر اعتقاد بعض الأميركيين أننا عدنا إلى الحرب الباردة، حين كانت هاتان القوتان العقائديتان، والعسكريتان، والثقافيتان الضخمتان تتواجهان في المعارك بهدف الفوز بالتفوق الحضاري مع بقاء النتيجة غير محسومة، لكن الواقع اليوم مختلف تماماً، باستثناء ترسانتها النووية الضخمة لا تشبه روسيا اليوم الاتحاد السوفياتي القديم. يشير البنك الدولي إلى أن الاقتصاد الأميركي أكبر بنحو 13 مرة من الاقتصاد الروسي، ومع أن روسيا حدّثت قواها العسكرية ما زال الكثير من عتادها قديماً ولا يضاهي الطائرات والدبابات والسفن الأميركية.

Ad

ولكن منذ عام 2012 حقق بوتين الكثير من الانتصارات العسكرية والاستخباراتية المذهلة، فقد غزا أوكرانيا وضمّ القرم من دون تكبّد خسائر كبيرة، كذلك تدخل في سورية ليدعم حليفاً أساسياً، وعمّق تحالفاً مع إيران عزز قوة روسيا ونفوذها في الشرق الأوسط، وسهّل أزمة اللاجئين التي أثارت اضطرابات كثيرة في سياسات الغرب وأوروبا الوسطى، وكان تدخله في الانتخابات الأميركية ناجحاً جداً، حتى إنه ولّد الانطباع لدى ملايين الأميركيين أن النتائج متلاعب بها وغير شرعية. حتى اليوم ينفّذ بوتين خطوات عسكرية عدائية في منطقة البلطيق وأوروبا الشرقية تقلق حلفاءنا وتضعهم في موقف عسكري مباشر حرج، فمن المرجح أن تكون المساعدة الحليفة التي تفرضها الجغرافيا محدودة، ولن تصل في الوقت المناسب.

يوسّع بوتين القوة الروسية مصوّراً نفسه مدافعاً عن الحضارة المسيحية في وجه الإسلام المتطرف والغرب الملحد الفاسد.

لا يتمتع فلاديمير بوتين بسحر خاص: عندما تفهم التاريخ تفهم استراتيجيته، فقد تبين أن السياسة الخارجية لم تكن "تقدمية"، وأن التاريخ لم ينحز إلى جهة معينة أو يتبع مساراً محدداً مسبقاً، وأن سياسات القوة العظمى التقليدية تصبح فاعلة جداً حين يدّعي خصمها أن اللعبة قد انتهت.

عندما أعلن جون كيري خلال الأزمة الأوكرانية: "لا تتصرف في القرن الحادي والعشرين كما لو أنك في القرن التاسع عشر وتغزو دولة أخرى مستنداً إلى عذر مختلق بالكامل"، أدركتُ أن الولايات المتحدة في موقف ضعيف جداً لأن بوتين قام بما استهجنه كيري بالتحديد وكان يعي تماماً أن لا أحد سيتصدى له.

يملك بوتين ما تفتقر إليه الولايات المتحدة: استراتيجية شاملة طويلة الأمد مبنية بالتحديد وبثبات على مفهومه الخاص عن مصالحة الأمة الفضلى، ويريد بوتين السيطرة على "جوار" روسيا، تلك الدول المستقلة أو شبه المستقلة التي كانت تابعة سابقاً للاتحاد السوفياتي والتي حاولت الخروج من المدار الروسي، كذلك يسعى إلى ترسيخ مكانة روسيا في مجموعة قوى العالم العظمى، وزعزعة حلف شمال الأطلسي، وتحويل روسيا إلى لاعب أساسي في الشؤون الأوروبية. إذاً، يود بوتين "جعل روسيا عظيمة مجدداً".

في الوقت عينه يطبّق بوتين استراتيجية متماسكة، ويواجه عدواً منقسماً يشلّه الغباء العقائدي. أولاً يدرك بوتين تماماً ما يفهمه حليفه الإيراني جيداً: يخشى القادة المتحضرون لخصومه الأشد قوة المواجهة العسكرية. لا يعني كل ذلك أن روسيا متفوقة على الولايات المتحدة في سباق القوى العظمى، فما زلنا أقوياء اقتصادياً، حتى إن العقوبات التي تبدو مصدر إزعاج بسيطاً لاقتصادنا تشل النمو الروسي، لكن ثماني سنوات من التراجع الأميركي دفعت بوتين إلى الاعتقاد أنه يستطيع فرض إرادته على المسرح الدولي، كذلك أثارت ثمانية عشر شهراً من الاستثمار الروسي الواضح في العملية السياسية الأميركية الشكوك حول رغبة الإدارة الجديدة في عكس مسارها. وإلى أن نستعيد قناعتنا ستواصل روسيا تقدمها والولايات المتحدة تراجعها، كما أن المرحلة الطويلة من السلام النسبي التي شهدها العالم بعد الحرب ستزداد تقلقلاً.

ديفيد فرانش*

* «ناشيونال ريفيو»