مسرات المتفرّج
في المنفى الطويل يجد الإنسان النفسَ وقد انغمست في تياريْن من مشاعر الأسى: واحد يولّده "البعد" عن الجذور، وآخر تولّده "الوحدة" والعزلة، مع عمق اختلاف التيارين عن بعض. فالمنفيّ قد يتمتع بصداقات كافية لمنحه مسرات المشاركة الاجتماعية، لكنه يشعر بأن المنفى زمانا ومكانا كفيلٌ، وهو يُلقي بظله الثقيل على المشاركة الاجتماعية، بمصادرة مسراتها وإطفاء جذوتها، الخامدة أصلا، مع الأيام. إنه يستنتجُ بيسر أن مشاعر "الوحدة" ليست وليدة انعدام الرفقة، بقدر ما هي وليدة سطوة المنفى، حتى لتصبح "الوحدة" إحدى إفرازاته: أنا منفيّ إذن أنا وحيد. والأدهى أن هذه المشاعر عادة ما تصبح دفينة، تكاد تكون غير واعية، في المنفى الطويل.ثم إن الزمن في هذا المنفى لا يشبه زمن الآخرين، بل لا يشبه زمنه هو يوم كان على أرضه ذات يوم. بل لعله لا ينتسب إلى الزمن أصلا. إنه زمن يفلت من عقارب الساعة، يفلت من دورة الشمس في النهار والليل، ويفلت من دبيب الفصول، الأمر الذي يجعله زمنا لا امتداد فيه، وقد خُصّ به وحده.
على امتداد ثلث قرن لم يفارقني الروع، وأنا أشعر بأن الزمن لا يأخذ بيدي، لكي أنمو معه شأن الآخرين حولي. إنني لا أتحرك معه إلى الأمام، بل أراوح في المكان الذي لا صلابة فيه. حين أحدق بأولادي وقد أصبحوا رجالا سرعان ما أجدني أتجنب ذلك، وكأني أحدق في "فكرة"، عصية على إدراكي: كيف حدث كل ذلك، وبهذه السرعة؟ لذا أجدني أهرب من التحديق، ومن مخلفاته. هذا يحدث أيضا حين أحدق في الأمكنة التي حدث أني أقمت بها، وانتقلت عنها قبل عشر، عشرين، ثلاثين من السنين. المكان هذا سرعان ما يبدو غريبا عني، وكأني لم أسكنه أو أقم فيه. إنه ينتسب بالتدريج إلى المخيلة، لا إلى الذاكرة. السنوات هنا تبدو "فكرة" عن أرقام مجردة، خرزا في مسبحة لا لون لها. هذا زمن لا يشبه في الجوهر زمن المقيم في أرضه التي ولد، ونشأ عليها. حين عدت إلى بغداد مرة، مرتين، فوجئت بأن من تبقى من الأهل، ومن الأصدقاء الذين تركتهم قبل ثلث قرن، قد تغيروا تماما، لا في الهيئة وحدها، بل في النفس.ما أيسر رؤية الزمن، وقد خطا بثوانيه، على وجوههم، وقاماتهم، على كل كياناتهم. لذا يعثر عليّ أحدهم في ذاكرته مركونا، وقد نمتْ حوله آلاف الخيوط من شباك ثلث قرن من السنوات. إن امتدادي الزمني الوحيد في ذاكرتهم إنما تم عبر متابعتهم لكتبي وكتاباتي عامة. لذا فالمخيلة هنا تحل محل الذاكرة. من الواضح أنهم نموا كأشخاص بطواعية عبر الماضي، الحاضر باتجاه المستقبل. هذا ما شعرتُ به. في حين أجدني، على خلاف ذلك، لم أقطع الماضي، الحاضر باتجاه المستقبل على شاكلتهم. ودليلي على ذلك أن ذاكرتهم، حين يتحدثون، تقلب الأيام والسنوات حتى الحاضر الذي هم فيه، مثل صفحات كتاب. في حين تثبُ ذاكرتي من الحاضر الذي أنا فيه في لندن، إلى الماضي الذي كنت معهم فيه في بغداد، مثل وثبة الكنغر. وكأن ثلث القرن من الأيام والسنوات اللندنية حفنة أرقام مجردة لا تبدو الذاكرة مؤهلة لتوزيعها على صفحات. هم قطعوا الشوط بتفاصيله الزمنية، وأنا قطعت الشوط دون تفاصيل.هذه واحدة من الخواطر التي تنبعث في رأس المنفي، لحظة تحول الزمان من عام متلاشٍ إلى عام 2017. تبعثه مسرات الناس حولي، وهم يقلبون كل الوسائل، بحثا عما يصلح للاستخدام في مهرجان المسرات هذا. إنهم يشغلون النفس بكل لمسة تخلفها دقائق الزمن على بشرتهم. وأنا أُسرّ معهم دون تردد، لكن كمتفرّج.