مجلس الأمن

Ad

أعترف بأن القرار المصري بالتراجع عن تقديم مشروعها بوقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى مجلس الأمن صدمني كما صدم الكثيرين غيري.

لكن مصر عادت ووافقت- وهي عضو غير دائم في مجلس الأمن الآن- على مشروع القرار الذي قدمته أربع دول أخرى هي السنغال وفنزويلا وماليزيا ونيوزيلاند، وهو المشروع ذاته الذي سحبته مصر، وقد وافق مجلس الأمن على هذا القرار بإجماع أعضائه، عدا الولايات المتحدة الأميركية التي اكتفت بالامتناع عن التصويت على القرار، وهي المرة الأولى التي لم تستخدم فيها حق النقض أو الرفض (الفيتو) ضد قرار يدين انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي العام والقانون الإنساني بوجه عام.

مصر ونضالها التاريخي

والواقع أن تراجع مصر عن تقديم مشروعها إلى مجلس الأمن قد خلق شعوراً بالمرارة والأسى، بل الألم لدى الجميع، لتاريخ مصر النضالي في الدفاع عن قضايا الأمة العربية، وقضايا التحرر العربي والإفريقي، وأنها لم تتخلَّ أبداً عن الحق الفلسطيني، وأنها خاضت مع الفلسطينيين معركتهم الطويلة لاسترداد أرضهم السليبة، التي خصبت بدماء شهدائها، الأرض التي يدنسها اليهود بمستوطناتهم هي في وجدان كل مصري يترحم على هؤلاء الشهداء.

الحصان الجامح

ولم أجد تبريراً للموقف المصري الذي صدمني وصدم الكثيرين غيري، لأنه خارج كل التوقعات التي تسود العالم كله، وخارج كل تحليلات المحللين والسياسيين في العالم كله، بل في الولايات المتحدة الأميركية ذاتها، وقفز إلى المجهول المطلق، الذي لا يقوم على أي مقدمات منطقية لهذا التبرير، بالرغم من أن ما يساور العالم الآن من قلق على مصيره الذي ينتظره في فترة رئاسة ترامب للولايات المتحدة الأميركية، حيث لا يعرف أحد حتى الآن ما يمكن أن يقف عنده جموح ترامب، وفقا للتصريحات التي أدلى بها وبرنامجه الانتخابي الذي أعلنه خلال معركته الانتخابية، والذي جاوز المدى الذي تقف عنده تصريحات الرؤساء في السباق الرئاسي، وأن تعيينه لمعاونيه في سدة رئاسته تؤكد هذا الجموح باختياره المتشددين من أمثاله والمعادين للآخر.

وإن السفير الأميركي في إسرائيل الذي عينه ترامب، أعلن أنه سينقل مكتبه إلى القدس المحتله فور توليه منصبه، وهو ما يتفق وما أعلنه ترامب في السباق الرئاسي، ومع تعهداته المطلقه لإسرائيل وعدم إقراره لأن تسوية القضية الفلسطينية يمكن أن تقوم على حل الدولتين.

فهل غاب كل ذلك عن السياسة الخارجية المصرية، فغابت عن هذه السياسة الرؤية تماما، لأن ذلك معناه أن مصر تراهن على ترامب، الحصان الجامح القادم من أقصى اليمين المتطرف والمعادي للآخر بوجه عام، وللإسلام بوجه خاص. ولماذا لم تطلب مصر من ترامب أن يصدر تصريحا رسميا بعزمه على حل قضية الاستيطان والتسوية الشاملة للقضية الفلسطينية قبل سحب مشروعها، وهو السؤال الذي طرحه د. عبد المنعم السعيد على قناة (cbc)، عندما سألته المذيعة لميس الحديدي عن رأيه في الموقف المصري الأخير في مجلس الأمن؟

تبرير مصدر دبلوماسي

نقلت وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية قوله إن مصر بحكم قربها وتعاملها المباشر مع كل جوانب القضية الفلسطينية منذ عقود تدرك أن التسوية الشاملة والعادلة للقضية الفلسطينية لن تتم إلا من خلال مفاوضات مباشرة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي تحت رعاية الأطراف الدولية والإقليمية.

وأضاف أن مجلس الأمن صدر عنه على مدار ستة عقود عشرات القرارات الأقوى في صياغتها والأكثر حماية للحقوق الفلسطينية من المشروع الحالي، وأن ذلك لم يمنع إسرائيل من انتهاكها على مرأى ومسمع من القوى الدولية.

واعتبر المصدر أن الإدارة الأميركية المنتهية ولايتها ترغب في تبني "موقف انتقامي من الإدارة الجديدة القادمة" من خلال تقييد حرية حركة ترامب وقدرته على اتخاذ قرارات حاسمة تجاه التسوية الشاملة، لينتهي إلى القول إن قرار مصر بعدم التعجل بطلب التصويت يعكس "رؤية أكثر عمقا وشمولية لكل تلك المعلومات".

تبرير ساذج لرؤية غائبة

والواقع أن التبرير السابق للمصدر الدبلوماسي يجافي كثيراً من الحقائق الواقعية والمنطقية في السياسة بوجه عام والسياسة الدولية بوجه خاص من النواحي الآتية:

1- تبرير أخلاقي لقضية غير أخلاقية:

إن التبرير بالموقف الانتقامي للإدارة الأميركية المنتهية من الإدارة الأميركية الجديدة القادمة، الذي كان وراء الامتناع الأميركي عن استخدام حق النقض ضد مشروع قرار الاستيطان، هو تبرير أخلاقي لقضية غير أخلاقية وهي استخدام الولايات المتحدة الأميركية الدائم لهذا الحق ضد قرارات عادلة للقضية الفلسطينية.

2- عالم السياسة والمصالح:

وإن ما برر به المصدر الدبلوماسي موقف مصر، بأنها لم ترغب في أن تشارك الإدارة القديمة موقفها الانتقامي من الإدارة الجديدة، وهو تبرير لا يعرفه عالم السياسة الذي يقوم على المصالح، وإن مصلحتنا كانت في أن نلعب بورقة رابحة في أيدينا هي الخلاف القائم بين الإدارتين الأميركيتين القديمة والجديدة.

3- تبرير متناقض:

أما تبرير المصدر الدبلوماسي بأن التسوية الشاملة للقضية الفلسطينية، لن تتم إلا من خلال مفاوضات مباشرة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي فهو يتطابق ووجهة النظر الإسرائيلية في الهجوم على قرار مجلس الأمن بإيقاف الاستيطان، بما يتناقض وموقف مصر الصريح في الموافقة على قرار مجلس الأمن من ناحية، ومع توقف المفاوضات بين الجانبين منذ عام 1991 عقب اتفاق أوسلو، وأنها تتراوح في مكانها منذ هذا التاريخ، من ناحية أخرى.

وحول ما أثاره المصدر الدبلوماسي من استهانته بقرار مجلس الأمن سالف الذكر لصدور قرارات أقوى من هذا المجلس، انتهكتها إسرائيل، ومع تحفظنا على هذا القول، لأن الولايات المتحدة الأميركية لم يسبق لها أن سمحت بصدور قرارات من مجلس الأمن تدين إسرائيل قبل هذا القرار.

وللحديث بقية نطرح فيها الإجابة عن سؤالين هما:

ما الذي قصرنا فيه في تفعيل قرارات المنظمات الدولية في الماضي؟

وما الذي يجب أن نفعله لتفعيل قرار مجلس الأمن الأخير وإحياء غيره من قرارات دولية؟