في مطلع عام 2016، نشرت مجلة "فورين بوليسي" تقريراً عن توقعاتها لحالة الحرب في العام الجديد، فرأت أن العالم ينتظر اندلاع عشر حروب ساخنة. يبدو أن "فورين بوليسي" لم تحسن التوقع على أي حال، فقبل أيام قليلة، بثت وكالة الأنباء الألمانية (DPA) نتائج دراسة مهمة، أجرتها "مجموعة أبحاث الصراعات" (AKUF)، التابعة لجامعة "هامبورغ"، أكدت أن العام الذي غادرنا للتو شهد اندلاع أو استمرار 32 حرباً.

إن المقارنة بين توقعات "فورين بوليسي" التي سبقت بداية العام المنصرم، ورصد "مجموعة أبحاث الصراعات" للحروب التي اندلعت واستمرت خلاله، في نهايته، إنما يوضح حالة الحرب ومآلاتها في السنة الفائتة، كما يشير إلى اتجاهات الصراعات المسلحة وثقافتها، في أوقاتنا الراهنة. بداية، لقد اتضح أن الحروب الـ32 التي شهدها العالم تركزت في منطقة الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا، بإجمالي 12 حرباً، مقابل عشر حروب في إفريقيا، وثماني حروي في آسيا، إضافة إلى صراعين في أميركا اللاتينية.

Ad

يشير ذلك بوضوح إلى أن الحروب اندلعت في البيئات الأكثر هشاشة، والأقل تنمية، والأبعد عن مفاهيم الحداثة والديمقراطية، والأقرب إلى التأثر بالعصبيات الإثنية والدينية.

وفي الوقت الذي لم تستبعد فيه "فورين بوليسي" أن تنشب حرب بين الصين والولايات المتحدة، على خلفية التنافس الاستراتيجي في بحر الصين الجنوبي، أو بين السعودية وإيران في ضوء التوتر المتصاعد بينهما، لم تتحول تلك التوقعات إلى حقائق، رغم استمرار أسباب النزاع.

سيمكننا الآن أن نستخلص ملامح جديدة للحرب في 2016، وهو ما يساعدنا على توقع مآلاتها في السنوات المقبلة، ومن أبرز تلك الملامح بطبيعة الحال أن الصراعات المسلحة القديمة تتواصل، وإمكانية اندلاع حروب جديدة تتراجع. من أهم سمات الحرب في 2016 أنها لم تندلع بين دولتين؛ فلم تخض إسرائيل حرباً ضد أي دولة عربية، ولم تندلع المعارك بين الهند وباكستان، ولم تشن دولة إفريقية عدواناً ضد إحدى جاراتها، بل إن الولايات المتحدة لم تخض حرباً ضد أي دولة كما دأبت على مدى العقود الفائتة. رغم غياب الحروب التي اندلعت مباشرة بين الدول خلال العام المنصرم، فإن نيران المعارك ظلت مشتعلة بين دول و"تنظيمات أقل من الدولة"، أو بين بعض تلك التنظيمات مع بعض.

السعودية، وقطر، والإمارات، واليمن، ومصر، وروسيا، والولايات المتحدة، وبريطانيا، وسورية، والعراق، وليبيا، وتركيا، وجنوب السودان، وغيرها الكثير، شهدت حروباً أو عمليات عسكرية مع "تنظيمات أقل من الدولة" خلال عام 2016.

و"التنظيمات الأقل من الدولة" هي تجمعات أو عصابات مسلحة، تستهدف تحقيق مصالح سياسية، مرتكزة إلى دعاوى أيديولوجية أو عنصرية، ومستندة إلى مطالب ذات طبيعة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو معنوية. يُعرف علم السياسة "الدولة" بأنها ذلك الكيان الذي يعبر عن إرادة منطلقة من عناصر محددة؛ تتمثل في الشعب، والإقليم، وحكومة ذات سيادة، ودرجة من التفاهم والانسجام بين تلك المكونات.

وظلت الدولة لقرون هي الفاعل الرئيس (وربما الوحيد) في الشؤون العالمية، حتى ظهر فاعلون مؤثرون آخرون؛ مثل المنظمات الدولية، والمجتمع المدني، و"اللوبيات"، والشركات متعددة الجنسيات، والجماعات المسلحة، وحتى الأفراد.

فالفاعل في المجال الدولي Actor، ظل مقتصراً على الدولة، حتى ظهر ما يُعرف بـ"القوى عبر الوطنية"Forces Transnationals، أو الفاعلون الجدد من غير الدولة Non State Actors، وهو ما تجسده حالة "القاعدة"، أو "داعش"، أو "حزب الله"، أو "حزب العمال الكردستاني"، أو جماعة "أنصار الله" (الحوثيين). ولأن هذه القوى الفاعلة الجديدة تفتقد قدرات الدولة بمفهومها التقليدي، كما يفتقر بعضها إلى الاعتراف والاعتبار الدوليين، ولا تمتلك القدر الكافي من الشرعية، فإنها تلجأ إلى استخدام أساليب قتالية غير تقليدية لتحقيق أهدافها.

وبالنسبة إلى الفاعلين من غير الدولة من الجماعات الإرهابية والتنظيمات غير الشرعية، فإن انتهاج أساليب متنوعة ومبتكرة لتحقيق أهدافهم العسكرية سيسبب صعوبة كبيرة للدولة الوطنية عند مواجهتها.

تتعزز قدرات "التنظيمات الأقل من الدولة" بسبب استنادها إلى "مظلوميات" تتعلق بـ"الاغتراب والتهميش"، وتردي الخدمات، وضعف التماسك والانسجام الوطنيين في بعض الدول، كما تستفيد من استخدامها مفاهيم أيديولوجية، بعضها ذو بعد روحي، إضافة إلى سهولة استخدام وسائط التكنولوجيا، والدعم الذي تتلقاه من قوى دولية مؤثرة في معظم الأحيان.

وكما يرى "سيري لونغ" مدير دراسات الشرق الأوسط، في جامعة بايلور الأميركية، فإن "نزع الشرعية" عن دعاوى تلك التنظيمات يعد أهم وسائل مقاومتها.

من الصعب جداً أن يتم نزع شرعية معظم تلك التنظيمات كما يريد "سيري لونغ"، لأن "حزب الله" مثلاً سيجد دعماً لشرعيته من إيران وسورية وروسيا، و"حزب العمال الكردستاني" سيجد تأييداً من دول تعادي تركيا؛ وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على تنظيمات مثل "أحرار الشام"، أو حتى "النصرة" في سورية.

سبب آخر يفسر ارتفاع حصيلة الجردة التي بلغت 32 حرباً خلال العام المنصرم؛ فبسبب اندلاع تلك الحروب والنزاعات بين الدول و"الفاعلين الأقل من الدولة"، بات من الصعب جداً إنهاؤها، إذ تقول "فورين بوليسي" في تعليلها لصعوبة احتواء تلك النزاعات، إن "انخراط جماعات متشددة فيها، يجعل من الصعب تسويتها، بسبب الأفكار المتشددة التي تحملها تلك الجماعات؛ وهو الأمر الذي يجعل الجهود الرامية إلى إقامة السلام بلا جدوى غالباً". لن يكون فارق القوة والتنظيم بين الدول المتحاربة وتلك التنظيمات سبباً وجيهاً لإنهاء الحروب، لأن تلك الأخيرة ببساطة تستخدم وسائل مبتكرة لإرهاق أعدائها وإطالة أمد الصراع.

ثمة ما يوضح أسباب ازدهار تلك النزاعات واستدامتها أيضاً؛ إذ إن معظمها يتم اختلاقه وتأجيجه وتوفير أسبابه وتمويله واستثماره من قبل أطراف إقليمية ودولية، فيما يُعرف بـ"الحرب بالوكالة"؛ وبالتالي يمكننا أن نتوقع حالة الحرب في العام الذي بدأ للتو؛ وهي حالة تتوارى فيها الدول خلف مقاعد السياسيين والدبلوماسيين، فيما تقوم أجهزتها السرية بتأجيج أسباب النزاع، واستئجار البنادق.

* كاتب مصري