على ما هو معروف، استقر الرأي على أن الدين لم يجد حضنا آمنا كالديمقراطيات الليبرالية، فتلك برهنت تاريخيا، وفي أزمنة عاصفة، أنها وحدها من ترعى حق الناس في أن يؤمنوا بما يشاؤون وتسهر على حماية خياراتهم الروحية. آية ذلك قبول الديمقراطيات الليبرالية واحتضانها طيفاً متنوعاً من العقائد التي جلبها المهاجرون معهم من كل "مداشر" الأرض، وليس ذلك مستغربا، ففي قلب هذه الديمقراطيات تقبع قيمتان جوهريتان هما حرية الرأي والمعتقد.

ولكن الإشكالية في ما خص حرية المعتقد تتبدى أعقد من ذلك بكثير، ذاك أن نماء النشاط الديني وأحد وجوهه صعود نجم ثيوقراطيين أعادوا هندسة الذائقة الإنسانية لأبناء طائفتهم ومصايرهم، منح بسخاء طاقة هائلة لفكرة العودة للينابيع الروحية النقية مع ما يصاحبها من هبوط إلى قاع الطائفية والكراهية.

Ad

ولكن بما أن الديمقراطيات يستحيل عليها أن تتعايش مع الأفكار الإطلاقية واليقينيات التي تفترس كل شيء وتلتهمه، نشأت المصاعب والاختلافات حول موقع الدين في الفضاء العام. وما زاد من صعوبة الأمر تحطم الأسيجة الديمغرافية بين البشر وتاليا بين معتقداتهم وامتزاج بعضهم بفضل العولمة والهجرة ببعض، وتاليا تزاحم الحيز العام بيقينيات مستوردة متعارضة إن لم تكن متصارعة.

ونزولا عند هذه الحقائق توجب العمل على تخفيف الحضور الثقيل لليقين في الفضاء الاجتماعي العام، وهناك العديد من التجارب في المجتمعات الأوروبية سعت بطرائق متباينة إلى معالجة هذه المعضلة من خلال رسم مسافة واضحة بين الزمني والديني، أخذت طورا سمة تعزيز الطابع المدني للمجتمع وطورا آخرا التركيز على احتكام التبادل الإنساني على الفضائل الكونية.

وتلك الإجراءات أصابت قسطا لا بأس به من النجاح في الحيلولة دون تنامي التنافر والشقاق الاجتماعي، لكونها كانت على وعي بأن المعتقدات والأفكار الإطلاقية عاجزة عن أن تتواءم مع بعضها بعضاً، وأبعد من ذلك مناهضة عقائديا لبعضها بعضاً، وهذا القول يكتسب وجاهته استنادا إلى حقيقة أن الأفكار الإطلاقية متى ما تم فحص ومساءلة نواتها الصلبة التأسيسية، فسنجدها تأخذ في شكلها النهائي تعبيرا أصوليا يكره الآخر ويضيق ذرعا به، وفي أوضاع كهذه تتعاظم فرص تحول مجتمعاتنا إلى قطعان لا تحركها سوى غرائز جمعية.