مواجهة تحدي الشعبوية
الرأسمالية أكبر محرك للرخاء في العالم على الإطلاق، ولكن المؤسسات الديمقراطية التي تخلق الحيز اللازم لتمكين قادة الأعمال من العمل لم تنجح في مواكبة التغير الاقتصادي والتكنولوجي المتسارع؛ ولم تتمكن من إجراء التعديلات الضرورية لضمان استفادة العدد الكافي من الناس من النظام الذي ينتمون إليه جميعاً. وينبغي لكل الزعماء أن يضعوا هذين الأمرين نصب أعينهم دائماً عند النظر إلى ردة الفعل الشعبوية السلبية التي شهدها العالم في عام 2016، والتي تجسدت في الخروج البريطاني، والنصر الانتخابي الذي حققه دونالد ترامب في الولايات المتحدة، والاستفتاء الفاشل على الإصلاحات الدستورية في إيطاليا، وغيرها.لم يعد بوسع الرأسماليين أن يحتفلوا ببساطة بنجاح الأسواق والإبداعات التكنولوجية في انتشال مليار إنسان من براثن الفقر المدقع منذ عام 1990، بما في ذلك مئات الملايين في الصين وحدها، ويتعين علينا أن نعترف بإخفاقات نظامنا العالمي في مرحلة ما بعد الحرب، مثل اتساع فجوة التفاوت، وعقود من ركود الأجور في العديد من الأسواق المتقدمة، والبطالة المستمرة عند مستوى 20 في المئة أو أعلى ــ وعند مستوى 40 في المئة بين الشباب ــ في كثير من الدول الأوروبية، والأمر الأكثر أهمية هو أننا لا نستطيع أن نفترض ببساطة أن النظام سوف «يضبط نفسه بنفسه» على نحو أو آخر، بل علينا أن نتحرك بدلاً من ذلك.لا شك أن مواجهة التحدي المتمثل في الشعبوية ليست مهمة قطاع الأعمال وحده؛ إذ يلعب القادة السياسيون دوراً بالغ الأهمية، من خلال دعم وتوسيع شبكة الأمان الاجتماعي لتغطية أولئك الذين «تخلفوا عن الركب» والذين من المنتظر أن يتخلفوا عنه في المستقبل، وتوفير أساس أقوى للنمو الشامل، من خلال الاستثمار في البنية الأساسية الذكية وإصلاح السياسات، ولكن بعيداً عن خلق فرص العمل المجزية وتقديم المنتجات والخدمات بأسعار أقل، لابد أن يكون القائمون على القطاع الخاص رواداً في العديد من المجالات الرئيسية.
فأولاً، ينبغي لهم أن يحرصوا على دفع مؤسساتهم للضرائب المطلوبة، وبينما يطالب المساهمون والموظفون في أي شركة بالإشراف الحصيف على مواردها المالية، فلا شيء قد يقوض قضية العولمة أكثر من شبح تلاعب الأفراد والمؤسسات بالنظام لتقليل فواتيرهم الضريبية إلى مستويات أدنى كثيراً من تلك التي يدفعها المنتمون إلى الطبقة المتوسطة الكادحة.ثانياً، ينبغي للمسؤولين التنفيذيين أن يعملوا على توسيع الجهود التي يبذلها القطاع الخاص لتوفير التدريب على المهارات التي يحتاج إليها العاملون في اقتصاد ديناميكي، ولاسيما في مجالات تعجز فيها المؤسسات التعليمية عن مجاراة التقدم، وتعود مثل هذه الجهود بالفائدة على الشركات والمجتمع على حد سواء، كما تفعل الآن شركات مثل «آي بي إم»، و«إيه تي آند تي»، وشركات أخرى كثيرة؛ فعلى سبيل المثال، قَدَّمَ برنامج «جينيريشن» (وهو برنامج لبناء مهارات الشباب العاطلين عن العمل، ساعدت شركة ماكينزي آند كومباني في إطلاقه لخدمة صناعات محددة في خمس دول) أكثر من عشرة آلاف فرصة عمل للخريجين منذ عام 2015، وبتكلفة أقل كثيراً من تكاليف الأساليب القائمة، ويقول نحو 98 في المئة من أكثر من 440 من شركائنا من أصحاب الأعمال إنهم حريصون على توظيف المزيد من خريجي البرنامج.ثالثاً، يتعين على المسؤولين التنفيذيين أن يضمنوا قيام شركاتهم بدور إيجابي في المجتمعات التي تعمل فيها، لأن رأسمالية المساهمين، إذا فُهِمَت على النحو السليم، ترتكز على رأسمالية أصحاب المصلحة، ففي منتدى فورشن العالمي الأخير في روما، مثلاً، تعهد أكثر من ثمانين مسؤولاً تنفيذياً بتوفير القدرة على الوصول إلى الرعاية الصحية لأكثر من 100 مليون طفل في المناطق المحرومة في دول جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا، وتستلزم المسؤولية الاجتماعية الشركاتية الاستجابة للاحتياجات الاجتماعية.وفي المقام الأول ينبغي للمسؤولين التنفيذيين أن يعملوا معاً لتعزيز قدرة الرأسمالية الحديثة على توفير القيمة الطويلة الأمد، وهي ليست بالمهمة السهلة، ففي دراسة أجرتها شركة ماكينزي أخيراً وتناولت مجموعة من كبار المسؤولين التنفيذيين من مختلف العالم، أفاد نحو 65 في المئة بأنهم شعروا بقدر متزايد من الضغوط اليوم لتسليم نتائج أكبر في الأمد القريب مقارنة بحالهم قبل خمس سنوات، ويصدق هذا بشكل خاص في الأسواق النامية. وأفاد 37 في المئة فقط من المسؤولين التنفيذيين بأن ثقافة شركاتهم تشجع التفكير في الأمد البعيد، واعترف نصف الـ63 في المئة المتبقين بأنهم يفضلون تأجيل الاستثمار في أي مشروع قد يضيف قيمة إذا رأوا أنه قد يمنعهم من تحقيق هدف الأرباح الفصلية. من ناحية أخرى، بلغت نسبة صافي الدخل الذي تنفقه شركات مؤشر ستاندرد آند بورز 500 على الأرباح وإعادة شراء الأسهم، ما يقرب من 100 في المئة الآن. الواقع أن التكلفة الإجمالية لهذه الضغوط مرتفعة؛ فالاهتمام بالربح القريب يؤدي إلى خفض النمو لأنه يخفض الاستثمار في الإنفاق على البحث والتطوير، وهو ما يتجلى في نهاية المطاف في نقص فرص العمل.ووفقاً للتقديرات الأولية من معهد ماكينزي العالمي، تكبد الاقتصاد الأميركي بفِعل التفكير في الربح القريب خسارة بلغت خمسة إلى ستة ملايين وظيفة على مدار الـ15 سنة الماضية، وأكثر من تريليون دولار أميركي في هيئة نمو غير متحقق في الناتج المحلي الإجمالي.ولكن ماذا يتطلب الأمر لتسريع وتيرة النمو العالمي وخلق المزيد من الوظائف المجزية؟ بادئ ذي بدء، نحتاج إلى تغيير السلوكيات والحوافز عند كل خطوة من سلسلة القيمة الاستثمارية، بدءاً بالمستثمرين المؤسسيين الذين يوفرون التمويل الطويل الأجل، والاستمرار مع مديري الشركات ومجالس الإدارات التي تشرف عليها. ومن النماذج الجيدة لمالكي الأصول الطويلة الأجل صندوق الثروة السيادية السنغافوري، الذي يحدد المكافآت التي يقدمها إلى مديري الأصول على أساس معدل العائد في عشرين عاماً، ويستخدم فترة لا تقل عن خمس سنوات لقياس الأداء، وعلى نحو مماثل، انتقل مجلس إدارة الخطة الاستثمارية لمعاشات التقاعد في كندا إلى نموذج متوسط العائد لخمس سنوات كأساس لقياس الحوافز.الآن حان الوقت للانتقال من الرأسمالية الفصلية إلى الرأسمالية الطويلة الأجل، وكما كتبت قبل خمس سنوات في مجلة هارفارد بيزنس: «يواجه قادة الأعمال اليوم اختياراً حاسماً، فبوسعنا أن نعمل على إصلاح الرأسمالية، أو يمكننا أن ننتظر إصلاحها من خلال التدابير السياسية والضغوط التي يفرضها الرأي العام الغاضب». الآن باتت فاتورة فشلنا الجماعي في تغيير أنفسنا مستحقة الدفع، ولكن مازال بوسعنا أن نختار الانتقال من الأقوال إلى الأفعال، والحفاظ على أفضل نظام توصل إليه العالَم لتسليم الرخاء للجميع بل تعزيزه.* دومينيك بارتون، المدير الإداري لشركة ماكينزي آند كومباني.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»