حي المرقاب كان مكانها. بيتها... ذاكرتها، لغتها، صوتها ورائحتها، وطاقتها المحبة الساحرة. حين غادرت أخذتها كلها معها... "شلعتها" وخلعتها من مفاصلها وسحبتها خلفها...

كأنها كانت هي روح وذاكرة كل ما حولها... وكل ما تمسه تدب دماء الحياة وتسري في شرايينه. وعندما انطفأت طمس الظلام كل ما كان يخصها.

Ad

انمحت ذكرياتها... لغتها، صورتها، صوتها، رائحتها، ومكانها. برحيلها انطمست ذاكرة المرقاب. لم يكن يعلم بالخسائر التالية حين خسرها. هي كانت كل ما يهمه ويعنيه في دنياه، لم يفكر ولم يدرك خسائره الأخرى. مئات الأمتار الذهبية المكنوزة في أرض بيته. لم يحسبها ولم ينتبه لها.

كان كل همه الخلاص والنجاة والهروب من أتون محبس أحزانه. لم ينس ليلتها الأخيرة في المستشفى ترتعد بين ذراعيه مطوقة بصدره. ترتعش من الحمى واختناق أنفاسها بها. وسدها على السرير ووضعت الممرضة قناع الأكسجين على أنفها. بدأت ترتاح وترتخي تشنجاتها ويدها استكانت في يده.

العاصفة المطرية برعدها وبرقها تضرب نوافذ الغرفة... يسطع البرق على وجهها الضامر المتعب. صوت الرعد يقصف المبنى ويهزه فتنقطع كهرباؤه... ويحل الظلام الدامس على المكان كله.

ينفصل تيار الأكسجين عنها ويتوقف ضخه.

يهرول على ضوء الكبريت إلى مكتب الممرضات يطلب الإسعاف والنجدة لها.

حين عادت الكهرباء... كانت قد غادرت. رحلت مع العاصفة والأمطار والرعد والبرق. لم يدر عن نفسه بعدها. ماذا حدث له حين غادرته في غفلة منه ومن مفارقة الوقت.

انهار في مفرمة فجيعته بفقدانها وفطام روحه الفجائي عنها.

أخذ الجيران بناته لتعرضهن للنسيان والغفول. نصحه الطبيب بتغيير المكان والذهاب إلى البحر. باع أمتاره الذهبية بدون وعي منه بقيمتها... كان يريد المنجاة والهروب من جحيم ذكرياته. حين اشتراه كان حلم عمره ومستقره... حين ماتت لم يعد يعني له إلا الفرار منه. من صدى صوتها، رنين ضحكاتها، ومشاغبة لغتها، والتحامهما معا.

ليوانها وفناؤها، والأسرة المفروشة بحوشها في ليالي الصيف... التماع قمر الليل المشع الساطع. السكون وهجمة السكينة، ورائحة الصمت بعد النعمة والنعيم.

كان الهروب من مطاردة حبها وافتكاكه منه أكثر أهمية من حسابات الكسب والخسارة. الملايين العائدة من الأمتار الذهبية كانت ستجعل منه أحد كبار تجار وهوامير البلاد.

لكنه منذ متى كانت المادة تعنيه أكثر من عواطفه؟

سيتخلى عن البيت ويبيعه دون أن يقرأ قيمته في زمنه القادم.

دائما في أحلامي تطاردني تلك الأماكن ذات الأزقة الطويلة الضيقة... المفضية إلى أماكن أخرى تشابهها في الطول والضيق.

أماكن فيها سكيك ملتفة على بعضها بعض التفاف المشي في متاهة. تصب نهايات شرايينها بسكيك أخرى تماثلها في الضيق والالتفاف... أرى نهايتها من بداية خطواتي الأولى بها.

أقشع الحائط الأخير كعلامة للنهاية... ثم فجأة أجد فتقا لفتحة جانبية تقود إلى امتداد آخر له. ودائما هناك يد تقبض على كفي... وذراعي مشدود إلى الأعلى ليصل كفي بكفها القابضة عليه بحرص واهتمام... لا أتذكر ملامحها... الأحلام لا تبينها لا تكشفها... لا تقيس طولها ولا عرضها ولا أبعادها... كل ما يتكشف لي منها هو الشعور بخفتها وأنها فوق... في العالي عني... وعليَّ أن أرفع رأسي لأراها... لذا أجدني أنظر إلى الأمام فقط بحثا عن النهايات وعن الوصول المراد.

ودائما هناك في الحلم حفيف عباءتها...

ترفرف أطرافها السفلية ملامسة ساقي ونحن نسير. سيرا غامضا مجهول الغرض ومجهول المكان والمصير.أين تكون هذه الأماكن المجهولة التي أتجول بها في مطاردة أحلامي؟ هذه الدروب المفضية إلى دروب أخرى مماثلة ومحاكية لها؟ إحساسي يعرفها ويستشعرها ويدلها ويدرك أمكنتها. لكن أين تكون أمكنة أحلامي المتكررة هذي الزائرة لي على الدوام؟ أمكنة تجعلني أصحو من منامي وشيء مني منقوص ومفتقد بها.

ضائع في تلك الأزقة المتداخلة الفارغة... الصامتة المترائية في اغبرار سرابها.

أحاسيس ومشاعر تهزني بقوة... ترجفني بالحنين... إلى المفقود مني ومنها...

الضائع منا. يتغشاها حنين متلفع بغموض لا يتضح ولا ينجلي. أنا أعرف هذه الأمكنة.

لا أكذب عنف وصدق نبض إرسال شفراتها عبر أحلامي... أشعرها ماثلة بي بكامل الحلول. لكن أين؟ ومتى كان؟ وتلك المرأة ما زلت أشعر بحفيف عباءتها حتى بعد خروجي من الحلم... يبقى رفيفها متمسكا بي. امرأة تحبني بلا أدنى شك.

* مقطع من رواية جديدة للكاتبة بعنوان "الجميلات الثلاثة".