لم أكن شاهدت «زي عود الكبريت» بعد، سيناريو وحوار وإنتاج حسين الإمام وإخراجه، وعندما واتتني الفرصة اكتشفت أن ثمة تجربة مُدهشة فاتت عليّ. فالفيلم الذي يمثل مغامرة فنية بالمقاييس كافة بدا لي وكأنه قبس من روح حسين الإمام، الذي تحمل شخصيته الكثير من الجرأة، والمغامرة، والرغبة في التجريب، واقتحام غير المطروق، وعدم الاستسلام للسائد والمضمون.أول ما يثير الدهشة في «زي عود الكبريت» أن شارة البداية تحمل ثلاث محطات مهمة، أولاها إهداء من «يوسف» نجل حسين الإمام، وهو إهداء يبدو جلياً أنه أضيف إلى الفيلم بعد رحيل صاحبه، وجاء فيه: «إلى أبي وأستاذي الفنان حسين الإمام تعلمت منك أن أكون ابتسامة لنفسي وللغير وأنت ستظل ابتسامة بداخلنا إلى الأبد»، والإهداء الثاني من حسين الإمام، الذي بدا وكأنه يبرر الهدف من الفيلم، إذ قال: «هذا الفيلم تحية واحترام وإجلال للسينما المصرية ونجومها الخالدين وعرفانا بفضلهم في نشر الثقافة والفنون والآداب للشعوب الناطقة بالعربية. نهديه إلى عمالقة السينما المصرية وإلى مخرج الروائع حسن الإمام». أما الكلمات الأخيرة فهي أقرب إلى الحكمة أو الفلسفة التي آمن بها أو خلص إليها صاحب الفيلم، وعبر عنها بقوله: «ليست الأمور كما تبدو لكنها تبدو كما نريد أن نراها». وبعد هذه المقدمة تبدأ الأحداث بقطع حاد وخشن لصوت حسين الإمام، وهو يتقمص دور الراوي، ويقص حكاية «القاهرة زمان».. قاهرة الأبيض والأسود.. قاهرة «المصريين والطليان والإغريك والأرمن والشوام»، في إشارة ذات دلالة إلى المدينة «الكوزموبوليتية»، التي كانت تتسع للطوائف والأجناس كافة، وتُعرف بأنها متعددة الثقافات، والأكثر انفتاحاً على العالم.
في المجمل العام، يبدو الفيلم مرثية لذلك الزمن، وتلك المدينة التي كانت، والأيام الجميلة التي ولت، من خلال الطفل «وحيد عزت»، وكل ما أتمناه أن يكون اختيار الاسم متعمداً ليكون بمثابة تحية إلى الممثل الشهير «وحيد عزت» (1935 - 2013) الذي عرف بتجسيد أدوار الشر، مثلما كان الفيلم تحية إلى نجوم السينما المصرية: فاطمة رشدي، أمينة رزق، محمود المليجي، حسين رياض، أحمد علام، سراج منير، فاتن حمامة، هند رستم، فريد شوقي، زهرة العلا، ليلى فوزي، كمال الشناوي، نور الشريف، شكوكو، فاخر فاخر، يوسف شعبان، سمير صبري، ماجدة الخطيب وشريفة ماهر، فالفيلم يوظف فن «البارودي» (المحاكاة لأجل السخرية) بشكل جديد يختلف عما ألفناه، حيث تجارة المخدرات، و«الرجل الكبير» الذي تبحث عنه السينما المصرية طوال تاريخها، و«الكليشيهات» التي تكاد تتكرر في الأفلام كافة، والإيقاع البطيء الذي يُخيم على الأداء ويلازم الحوار! شخصية وأسلوب وتمرد حسين الإمام و{جنونه» تمثل في اختياره «العبقري» فكرة استعارة حوار وشخصيات الأفلام المصرية الكلاسيكية، ومقاسمته إياها المشهد والحوار، وكأنه «ابن ذلك الزمن». لكن سذاجة الحكي، وضعف البناء، وركاكة الحوار، بالإضافة إلى فقر الإنتاج، عناصر تسببت في فساد الفكرة الطازجة، لولا المونتاج الرائع (زكريا عامر ومونتاج النسخة النهائية لسمر الشيخ)، الذي أنقذ المغامرة، وحافظ على بريق التجربة، والاختيار الطريف لأسماء الشخصيات «منقي» و{خيار» و{مميس» انعكاساً لسخرية لطيفة طالما ميزت شخصية حسين الإمام. حتى هجوم الفيلم على الحقبة الناصرية «وبقينا على بستان الاشتراكية» جاء متسقاً مع الأفكار «الليبرالية» لبطله ومنتجه وكاتبه ومخرجه، الذي يفاجئنا عندما ينقلب على التزامه الصارم بالاعتماد على أفلام، وشخصيات، والده المخرج الكبير حسن الإمام (حب في الظلام (1953)، الملاك الظالم (1954)، الجسد (1955)، أنا بنت مين (1950) وبنت من البنات (1968)، ويُظهر احتفاءً ملحوظاً بشخصيتي «أنيس» (عماد حمدي في «ثرثرة فوق النيل») «سرحان البحيري» (يوسف شعبان في «ميرامار») رغم أن الفيلمين للمخرجين الكبيرين كمال الشيخ وحسين كمال، إلا إذا كان انحرافه عن نهجه متعمداً لتوجيه تحية إلى المخرجين الكبيرين أيضاً.هنا لا يمكننا أن نتغافل عن الاختيار الدقيق لجميع اللقطات المطلوبة، من دون زيادة أو نقصان، غير أن الحيرة لا بد تنتابك عما إذا كانت اللقطات اختيرت أولاً أم أن السيناريو كُتب ثم جاءت بعده اللقطات، ولا بد من أن تشعر بالاستياء من الأغاني (كان زمان/ قولي للبوليس/ صول فاصول/ ياهنايا) التي كتبها ولحنها حسين الإمام، وكانت خارج السياق!
توابل - سيما
«زي عود الكبريت»!
02-01-2017