يرى ديزيرة سقّال أن الوجود يأخذ معناه من الإنسان يداً بيد، وأنّ المادة ترد ينابيع العقل لتملأ جرارها من ماء المعاني، فذات الإنسان: «نفسها هي التي تعطي الوجود معنى، فما حوله مادة غُفْلٌ، تكتسب معانيها من ذات مَن يعقلها، وبالتالي تكتسب منه وجودها الفعلي بالنسبة إليه». وليست «المعلّقة السابعة» سوى الكتاب الذي يحمل همّ الخلود: «ألا يكون الفنّ عموماً، والشعر خصوصاً، باباً يُدخل الإنسان الى الأبديّة؟».
لغة شعرية موجوعة
يستهلّ الشاعر رحلته صوب الخلود بغرق عميق للغوص على لؤلؤ الذات والبحث عن كيان يختبئ في وميضه: «غارقاً فيّ، / أبحث عنّي، / ألملم منّي وميض الكيان»... فكلّ شيء يقيم في المرايا العميقة يدلّ بالاصبع على الشاعر باعتباره الأمل لتتحوّل المفردات أوطاناً لأخيلة اصطادها سقّال بشبكة أخذت خيوطها من لغة شعريّة موجوعة على جمال: «كل شيء يشير إليّ / كأنّي أنا الأمل / في كلّ هذا الوجود / أُحيل إليّ الخليقة أخيلة / في حروف.../ كأنّي أنا / ترجمان الوجود الذي يتناثر حول كياني لُقيّات شعر/ يحرّرها الشعر في ناره الآسرة». ويعود سقّال إلى دنيا طفولته حيث كانت علامات الاستفهام سنابل حقله الأوّل، وحيث كانت قراءة الدنيا انتساباً إلى الدهشة: «أعود إلى ثنايا الوقت / طفلاً يقرأ الدنيا / بعين الدهشة الأولى/ ويقترف التساؤل»... والشاعر الطفل يرفع عينيه الى قبة المجهول فتغريه بتسلّق ذاته وصولاً إلى قمر الحقيقة: «ذهولاً كنتُ من زمن،/ أراقب قبّة المجهول تسحرني / وتأخذني معانيها»... ومن الطفولة إلى الصّبا يمضي سقّال مسجّلاً نبض الوقت في عروقه، فالصّبا حبّب إليه المستحيل مستعيناً بيد الحلم التي تجرؤ على الثمار في الأغصان العالية: «وانتظرتْ حياتي أن تقطّف من تناقضها ثمار المستحيل / وأن يجيء شبابها الدفّاق بالأحلام...» وتحت سحابة الشباب الزرقاء اختارت القصيدة صبيّها، فعرف الشاعر المقيم في هذا الصبيّ أنّه على مرمى قافية من الأبدية ولم يعد الوصول ضرباً من الاستحالة: «وصار الحرف لي كَوْني / وصار الشعر راياتي أعلّيها / وأغمدها بقلبي الكون / في أبدية بيضاء/ أدخلها وأحلم بالأمان». ومع التقاء الشباب والقصيدة تسهل إعادة صياغة الوجود بعمليّة خلق جديدة طينه الحبر الذي ينفخ في الوجود روح الفتوّة لتمتلئ عين الطموح به: «يرى، من فوق، هذا الكون، / يهدمه ويبنيه / ويعجنه بطين الخلق / كي يغدو فتيّاً / صالحاً ليكون ممتداً / على رؤيا طموحي». والشباب يُخرج الوقت من كبريائه ويقوده نحو الشاعر وادعاً، شهيّاً: «يغرق الوقت في ناظريّ / يذوب كحبّة سكّر»؛ فتسقط شهيّة الافتراس من الزمن على تراب يضيئه صخب الحياة الموشوم بماء الحلم، ويرتدي الوقت إلفته ليتحوّل يداً تستأصل الرتابة من صدور الليالي: «يخرج الوقت من بيته / ليصير أليفاً / يخرج الوقت من جلده / نحو أفق يحاصره الزمن المتوقّف/ عند حدود الشباب./ وأمسح فيه ثوب الليالي»... ويستمر الشّعر قدرة عجائبية في ذات الشاعر، تحرّض الذات على الفيض ليجري في عروق الاشياء دم الأبد: «ذاتي التي نمّيتها بالشّعر / تسكن عالمي / وتفيض في ما حولها / لتؤبّد الأشياء حين تمسّها»...صراع وتمزّق
وفي طريق سقّال إلى ذاته في رحلته الوجوديّة يتمزّق بين ذاتين: واحدة تهنأ في الاقامة على شرفة المطلق، والأخرى أسيرة التكاثر وتوقها إلى الكمال: «فاحتوى الذاتين في قلبي / صراع دائم ينمو/ على حدّ المحال»... إلاّ أنّ القصيدة لا تترك صاحبها يتوزّع ويتجزأ أو يتشظّى وهي مكتوفة اليدين، إنّما تمسح جبينه بزيتها المبارك: «فتوزّعت كِسَري الزوايا / وارتديت الأقنعة!/ ثمّ اجتمعتُ / فسال في حبري رؤاي المبدعة»... وللوطن إقامة في ألم سقّال الوجوديّ، فهو تراب فجعته الحرب، فصار قمح الحقد الأسود يجود بالرغيف المرّ، الطالعة منه رائحة الموت الناسجة ذاتها سحابة شجن تظلّل ألوف الجائعين إلى الخبز والوطن والحياة: «يحملني ألم مرصوف في الوقت / إلى وطني / ويطاردني... / يعجن في ظلمات الحقد رغيفاً للحرب / ويخبزه في فرن الموت، / ويطعمه لمئات ألوف... مغموساً بالشجن»... ومن الحرب يفتح الشاعر شراعه قِبلة الحبّ الذي يوشيه: «بزهر المطلق الصّاهل»، ويصير في ذاته ذاتاً ثانية تعزّز مسيره نحو الأبد الذي رسمه الشاعر هدفاً نهائياً وساق كلّ مائه إلى طاحونته البعيدة: «يدخل الحبُّ إلى قلبي ذاتاً ثانية / فأضمّ الأبد الممتدّ في ذاتي / حلماً»...ظل شاعر
وإليها، تلك المخاطَبَة الأنثى التي لا يدلّ عليها سوى ضمير المخاطبة، يرفّ صوت الشاعر، مسترجعاً إيّاها من زمن سحيق: «كأنّني من ألف عام / نمتُ في عينيكِ»، وهذه الـ{هي»، ملتبسة بين أرضيّتها وعلويّتها، إذ إنّ اليقظة في عينيها ترفع الروح إلى قناطر السماء: «واستيقظتُ بغتةً / فلامست روحي السماء»... وعلى جناح الرؤيا يبدأ وجه الشاعر الانتماء إلى مرايا الأبديّة، ويرتسم المشهد المنتظَر، فالشاعر محاصَر بالأبديّ الجميل، والنوم سيّد الموقف، والذات تصل إلى معرفتها من نافذة العاطفة وتحاول اصطياد حقيقة الوجود بشبكة شعورها: «وإذا الظلام / ينشقّ عن نور سحيق، / كلّ ما حولي ينام / والذات في الأبدية البيضاء / تُبصر من خلال شعورها / وتَجُسّ ما كان الوجود / وما يكون»... ولا شكّ في أن القصيدة حاضرة هناك، وهي التي تلد دنياها من رحم قوافٍ بكر: « لا شيء من حولي / سوى زهو القصيدة تكتب الدنيا/ ويُنزلها على الورق الفتون»... وفي نهاية معلّقته السابعة يبلغ سقّال الـ{فوق» الذي يريده، فتنسحب الدنيا من كينونتها لتتحوّل ظلّ شاعر: «وأرى الدنيا ظلاًّ لي»... ويتفرّغ الشاعر، فوق، لكماله، فيقيم حواره المتواصل مع الأشياء ويتبادل اللغة مع نسغ الكون الذي يقبض عليه بأصابع اللغة ويريده رقصاً نورانياً: «كلّ الأشياء تحاورني،/ وأحاور فيها نسغ الكون،/ وأكتبه كالرّقص المشبع بالألق»... ولا ينسى الشاعر قبل أن يضع النقطة النهائية في آخر معلّقته أن يجدد انتماءه إلى ذاته الشعرية باعتبار القصيدة امتداداً للروح، وباعتبار القافية أثمن يدٍ تطرق باب الأبديّة.