استقر في الوعي الشعبي بشكل خاص، ووعي فئة من الكُتاب والمثقفين، لفترات طويلة، أن الموهبة وحدها تلعب دورا أساسيا وتتحكم في الجزء الأكبر من الكتابة الإبداعية، وأن وحي الكتابة وطقوسها هما ما يدفعان بالكاتب لكتابة إبداعية لافتة وقادرة على تجسيد واقع فني حي يؤثر في جمهور التلقي ويضمن للكتاب البقاء والخلود.

لكن الجامعات والمعاهد المتخصصة في أميركا وأوروبا، وحتى شرق آسيا، صارت تدرِّس ومنذ عقود ما يُعرف بمناهج الكتابة الإبداعية. بل إن جامعات كثيرة، من بينها جامعة "أيوا-University of Iowa" ومنذ عام 1967، صارت تنظم في كل عام ورشة للكتابة الإبداعية يشترك فيها كُتاب من مختلف دول العالم، وتنطلق هذه الورشة أساسا من مقولة: الكتابة الإبداعية علم وممارسة وخبرة علمية وحياتية.

Ad

مثلما تُدرِّس الجامعات والمعاهد المتخصصة الهندسة والطب والكيمياء والرياضيات وعلم الفلك وغيرها، فإن هناك كليات متخصصة تُدرِّس ما بات يُعرف بالكتابة الإبداعية.

ومثلما تشترط الكليات المتخصصة امتحان قبول وكفاءة لمن يتقدم إليها، فإن كليات الكتابة الإبداعية تشترط ممن يتقدم إليها أن يكون موهوباً، وأن يقدم كتابةً أو رسماً أو قطعة موسيقية أو مشهداً مسرحياً يؤكد موهبته، حيث يتم تقييم هذه الكتابة من قبل كُتاب أو فنانين مشهود لهم بالخبرة والحضور الإبداعي، وليس من قبل مؤهلين أكاديميين. فخير من يقيِّم الكاتب هو الكاتب، وأفضل من يحكم على مشهد مسرحي هو مخرج مسرحي متمرس. وهكذا يتقدم الآلاف للانتساب إلى كليات الكتابة الإبداعية، ويتم قبول عدد قليل مؤهل للدراسة والإبداع.

إن علم الكتابة الإبداعية يقول إن أي كاتب مبدع إنما ينتح من بئر طفولته ومراهقته وقراءاته وقناعته وخبرته الحياتية، وأخيراً تراكم تجاربه في الكتابة. لذا، ولكي لا يبقى الكاتب ينتح من بئر واحدة، ويكتب عن موضوع واحد، ويدور في دائرة همٍّ إنساني واحد، فإنه يتوجب عليه أن يجدد دماء كتابته، عبر القراءة المعمقة والاطلاع على تجارب كتابية إبداعية إنسانية لافتة، وعبر خوض تجارب حياتية جديدة، وأخيراً من خلال كتابة تتخذ من التجريب والتجديد طابعاً يميزها.

إن أي كاتب يمتلك علاقة خاصة بلغة يكتب بها، وهذه العلاقة تتيح له وصلاً بمفردة وجملة وفقرة وفكرة يكتب بها. ويبدو صعباً جداً أن يتجاوز الكاتب علاقته بلغته التي تعوَّد على الكتابة بها. لذا، لا يبقى أمامه سوى اختيار مواضيع جديدة، في كل مرة يكتب بها، ومن ثم تطويع لغته، لتقديم تلك المواضيع، وبما يتناسب وطبيعتها.

إن الكثير من الكُتاب حول العالم، وبعد أن يقدم أكثر من عمل إبداعي، في مختلف أجناس الإبداع؛ الكتابة والتشكيل والموسيقى والمسرح، يصبح من الصعب عليه مغادرة دائرة فنه. لذا، يبدأ بتكرار نفسه، ومع هذا التكرار يخفت تميزه، حتى إن بعض الكُتاب يعيش على مجد عمل سابق، وكل عمل جديد لا يفعل شيئا سوى الأكل من رصيده لدى القراء.

الكتابة الإبداعية حرفة إنسانية صعبة، بل صعبة جدا، وصعوبتها أنها مرتبطة بالآخر؛ الآخر الذي لا يعرفه الكاتب، الآخر المتطلب، الآخر المطلع على تجارب جديدة، والمتحمس الذي يطالب الكاتب بأن يكون مبدعا متجددا في كل مرة يكتب فيها. لذا، ليس أمام الكاتب سوى أن يكون واعيا لحرفته، وواعيا أكثر لأن يقدم في كل مرة يلتقي جمهوره عملا متجددا يضيف إلى رصيده الإبداعي عند القارئ ولا يأكل منه.

الكثير من الدراسات الإبداعية تُجمع على أنه لا شيء يقدم للكاتب عونا كما هي القراءة، القراءة المتعمقة والمتنوعة. فكاتب الرواية مطالب بأن يقرأ في نتاج الرواية، مثلما يقرأ الشعر والقصة، ويطالع السينما والمسرح والتشكيل. كل هذا مجتمعا قد يكون حافزا لفكرة جديدة تُكتب بصياغة جديدة.

الكتابة الإبداعية مهارة إنسانية، وليست كالقراءة مدادا متجددا لها.