الشعراء أبناء المزن!

نشر في 18-06-2015
آخر تحديث 18-06-2015 | 00:00
 مسفر الدوسري

خلقت طينة الأسى وغشتها نار وجدٍ وأصبحت صلصالاً

ثم صاح القضاء كوني فكانت طينة البؤس شاعراً مثّالا!!

(الشاعر السوداني إدريس جماع)

يا لبؤس الشعراء، يا لعذاباتهم الخضراء التي كُتب لها أن تورق أبداً وتتشجّر، يخيّل لي أحيانا أنهم خُلقوا من طين الأسى فعلا، وليس على سبيل التعبير المجازي، هؤلاء الذين ينعمون بجراحهم، ويغزلون من أشعة القمر البهي أوتارا يعزفون ما تشظى من أحزانهم بها، فيَطربون ويُطرِبون!

يتجرعون ماء النار ليستقر بين أضلعهم، ويقطرونه بخارا كثيفا على شكل غيمة تهتُن مطرا ملونا، فتزهر خطوات آهاتهم أينما مرت على جفاف قلب، يشعرون أنهم يكادون يموتون خنقا، فإذا بأنفاسهم ترسم فضاء فسيحا نقي الهواء، فضاء يوسع لصوت بكائهم المدى، ويمهد الطريق لسفر أرواحهم المخنوقة إلى الجنة.

الشعراء وحدهم يحتفلون بموتهم، ويهيئون له كرنفالا من القصائد، وينصبون لوجعهم مسلة كبرى ينقشون عليها رسوما وصورا لآلامهم، الشعراء وحدهم يبنون «بيوت الشَّعر» من صوف الكلمات حول مناقع دموعهم، ويصطادون غزلان الوحدة بقربها، الشعراء وحدهم يبكون من شفاههم، فكأنما هم يبتسمون!

الشعراء أشقى خلق الله على الأرض.. كل امرئ على هذه البسيطة يلوذ بالأيام لتخيط بالنسيان جرحه، بينما يلوذ الشاعر بالشعر ليخلده رغم أنف الزمن، قَدر الشاعر أن يحفظ الشعر له جرحه ساخناً كما هو كلما تناوله، وكأنما قطف جرحه للتو. يفتح الشاعر جرحه في كل قراءة للقصيدة التي وثقّت، ويشم عبقه، ويقرأ ندى صباحه، وتمتلئ عيناه باخضراره الشهي، ويعيد له سيناريو اللحظة السابقة حسّاً وكأنما هو عايشها للتو، حتى وإن كان مضى عليها زمن!

يخطئ من يظن أن الشاعر يتشافى بالقصائد من الحزن، القصيدة لا تشفي من الحزن، هي فقط مكافأة الحزن للشاعر، كل الناس يكافئهم الحزن بالسلوى، بينما الشاعر يكافئه الحزن بالشعر، وهذه ليست دائما قسمة عادلة، أحيانا كل ما يتمناه المرء أن ينسى، أن يوثق حزنه في كتلة من رصاص ويهوي به إلى قعر بحر من الظلمات في داخله، الشعراء هم الوحيدون المحرومون من ذلك.

ينشطر الشاعر بسيف حزنه إلى شطرين، شطر يحتفي بالحزن، ويهيئ له مجلسا في الصدر، ويسامره ويقدم له من صنوف المزن ما يفرح عشبه، وشطر آخر يقرأ في حضرته التعاويذ والتمائم العالقة في ذاكرته لطرد الأرواح الشريرة، الشطر الأول اعتاد على ألا يأتي الحزن إلا وحقائبه معبأة بالقصائد، وكثيرا ما خصه بواحدة منها أو أكثر، لذا يجد في الحزن «بابا نويل» الذي ينتظره عند كل نافذة أسى.

أما الشطر الآخر في ذات الشاعر فيكسر خلف الحزن جرة ماء، راجيا ألا يعود ثانية، الشطر الأول هي الذات الشاعرية في الشاعر، والشطر الآخر هي الذات الإنسانية، صراع بين الذاتين في نفس الشاعر لا يعرف جحيمه سوى الشاعر نفسه، وهذا الصراع والانشطار ليسا مقصورين على حالة الحزن فقط، وإنما في الفرح أيضا، حيث تريد الذات الإنسانية في داخل الشاعر أن تعيش الفرح، بينما تريد الذات الشاعرية أن تكتبه، الذات الأولى ترغب أن تكون جزءا منه، بينما الذات الأخرى تفضل أن تكون خارجه لتراه بوضوح!

قدر الشاعر هو الصراع أبداً، ابتداء مع ذاته وليس حتما انتهاء بها.

back to top