الشاعر ليس الشعر... تماما كما أن سيمفونية بحيرة البجع رائعة تشايكوفسكي ليست الموسيقى، ولا عبقرية سلفادور دالي هي الفن التشكيلي، وحبة الرمل ليست تلك المساحة الممتدة من الماء إلى الماء... و»طير الوروار» ليس صوت فيروز، وسرب النوارس ليس الفضاء الممتد من الأزرق الأدنى إلى الأزرق الأقصى، إلا أن هذه الحقائق رغم بداهتها تغيب عن فهم البعض منا، ويصعب عليه إدراكها،

Ad

مازال بيننا من يصرّ على أن الصورة بحجمها الكلي ليست سوى تلك التي تسكن بؤبؤ عينيه فقط، والتي لا تتعدى حدود جفنيه، مازال بيننا من يرى أن البحر ليس سوى ذلك الذي يحيط بقاربه الشراعي، ومداه ليس سوى ذلك المدى الذي في متناول خيط صنارته، لا بحر بالنسبة له بعد ذلك المدى، ولا ماء بعد ذلك الأفق!

مازال بيننا من يجادل بحماقة فظة بأن الربيع ليس سوى زهرة خزامى التي تظهر على وجه الأرض بالقرب من خيمته الصحراوية إذا ما جادت المزن بماء وفير، وأن ما عدا تلك الزهرة البنفسجية ليس من الربيع في شيء!

يحاول إقناعك عبثا بأن الشجر ليس سوى قبيلة النخل التي يفترش ظل إحداها، وما تلك الأشجار الأخرى سوى أعمدة من الخشب كستها الطبيعة بعض الأوراق الخضراء وربما بعض الثمر إمعانا في التمويه!

بالنسبة إلى هذا البعض لا شيء أبعد من أرنبة أنفه، وليس هناك سوى العدم!

اعتاد فكره على أن يقتات من ذات الغذاء كل العمر، وأي غذاء جديد يسبب له «تلبكاً» فكريا قد يودي بحياته.

أغلق على ذاته النوافذ بإحكام، وأوصد الأبواب عليها جيداً، وأدمن استنشاق الهواء الآسن، ورائحته العفنة، وأصبح مهدداً بالموت اختناقاً كلما حرّكت نسمة هواء نقي أوراق شجرةٍ في الخارج بالقرب من نافذته، هذا البعض لا يرى من الإبداع سوى ما يقع ضمن سقف ذائقته، وهذا الإبداع بالنسبة له ليس سوى ما جاء على مقاس ما أبدعه أجداده الأقدمون، حجّته في ذلك هي ذات الحجّة التي تحصّن بها جده الأول «أبو جهل» وأصحابه والقائلة إن هذا ما وجدنا عليه آباءنا الأولين!

إنه مقاتل شرس ضد كل ما يختلف عن رؤيته ولا يعترف بأي شكل من أشكال الجمال سوى ما اعتاد عليه مزاجه، وسوى ما تربّت عليه ذائقته، جاهل بأي صنف آخر من صنوف الجمال.

إن أسوأ أنواع الجهل، ذلك الجهل المتوّج بالحماقة، ذلك الجاهل الذي يعتقد أنه يمتلك كل مفاتيح المعرفة، ولا مفتاح آخر غير تلك التي بين يديه، من الجهل أن نختصر السماء بنجمة حتى وإن كانت تلك النجمة هي الشمس بجلال ذهبها، ومن الحماقة أن نحاول إيهام الآخرين بأن تلك هي كل السماء، وذلك لأنه ليس بالضرورة أن يكون الآخرون مصابين بذات العمى!

أولى سلالم الوعي هي الإيمان بأن الإبداع أوسع من مدى رؤيتنا، وأن ذائقتنا ليست إلا الجزء اليسير من صورته وليست صورته الكليّة.