الخطر الذي يهدد المعايير المصرفية

نشر في 07-01-2017
آخر تحديث 07-01-2017 | 00:00
ليس مرجحاً أن ينطوي جعل أميركا دولة عظيمة مرة أخرى على حماسة جديدة لقواعد أكثر صرامة صُنِعَت في «بازل»، أما الذين ينادون بإلغاء قسم كبير من تشريع الإصلاح المالي لمصلحة نسبة استدانة أعلى، فيتصورون نسخة «صنعت في أميركا» من التنظيم المصرفي.
 بروجيكت سنديكيت أعطت الأزمة المالية في عام 2008 دَفعة كبيرة لواضعي المعايير العالمية، فعلى حين فجأة، أصبحت لجنة "بازل" (التي تحدد معايير الإشراف المصرفي الدولي) في صدارة الأخبار المالية، وغَلَبَت على حفلات العشاء في مانهاتن وكينغستون مناقشة النقاط الدقيقة الواردة في اتفاق "بازل" الثاني والشرور المترتبة على متطلبات رأس المال المسايرة للاتجاهات الدورية، أما الحكومات التي كانت مرتابة في التدخل الدولي فكانت حريصة على وضع قواعد عالمية أكثر صرامة لمنع الأزمات المصرفية من الامتداد عبر الحدود ونقل العدوى إلى مناطق أخرى، مثل نوبات الإنفلونزا الآسيوية.

وكانت العواقب الملموسة لهذا القدر من الحماس، متمثلة في إنشاء مجلس الاستقرار المالي، الذي ولِد من رماد منتدى الاستقرار المالي، في قمة مجموعة العشرين التي استضافتها لندن في أبريل 2009، وإشراك ممثلين من كل الدول الأعضاء في مجموعة العشرين بين واضعي القواعد الأساسيين في "بازل" وأماكن أخرى، وأفسحت هيمنة مجموعة الدول السبع المجال للأمل في أن تؤدي عضوية أوسع إلى إنتاج مشاركة أكثر شمولا ودعم سياسي أكثر قوة لزيادة رأسمال النظام المصرفي.

وقد نجح كل هذا التغيير إلى حد ما، فعلى سبيل المثال، أفضت قواعد اتفاقية بازل الثالثة التنظيمية إلى مضاعفة رأس المال الذي ينبغي لأي بنك أن يحتفظ به، وعملت على تعزيز جودة رأس المال، والآن يبدو النظام أكثر أمانا بعض الشيء نتيجة لهذا، ولكن هناك علامات خطيرة تشير إلى أن الالتزام بمعايير عالمية أكثر قوة ــ أو أي معايير مشتركة في واقع الأمر ــ ربما أصبح يتضاءل.

تنبأ كثيرون بهذا الاتجاه، ولكن لسبب غير صحيح؛ فقد حذر المتشككون من أن التوصل إلى اتفاق بين عشرين دولة أو أكثر سيكون أصعب كثيرا مما كان بين اثنتي عشرة دولة هي مجموع أعضاء لجنة بازل قبل الأزمة (دول الاتحاد الأوروبي في الأساس، مع تمثيل الولايات المتحدة وكندا واليابان فقط لبقية العالم). وفي الممارسة العملية، لم تكن هذه مشكلة كبيرة، فقد تم الاتفاق على "بازل" الثالثة بسرعة أكبر من "بازل" الثانية، وأثبتت الضغوط السياسية التي مارسها وزراء المالية، والتي جرى التعبير عنها من خلال مجلس الاستقرار المالي، فعاليتها.

الواقع أن التوترات الأخيرة كانت أقدم طرازا، حيث عملت على تأليب الولايات المتحدة ضد منطقة اليورو، مع وقوع المملكة المتحدة وغيرها بين شقي الرحى، وكانت الولايات المتحدة تمارس الضغوط لفرض ضوابط أكثر صرامة على النماذج الداخلية للبنوك، وتحديد سقف للمستوى الذي يمكن لنماذج البنوك عنده خفض أصولها على أساس المخاطر المرجحة، وحتى الآن، كان الاتفاق على هذه الأرضيات المزعومة للناتج مستحيلا، ويزعم الأوروبيون أن إقراض بنوكهم للشركات أقل خطورة بطبيعته، ففي كل الأحوال، تُقرِض بنوك الاتحاد الأوروبي المزيد من الأموال للشركات الكبيرة ذات التصنيف الأعلى، والتي يمكنها الوصول إلى أسواق رأس المال الأميركية، بدلا من الاقتراض من البنوك، وهي تحتفظ أيضا بقروض الرهن العقاري الأقل مخاطرة على دفاتر ميزانياتها، في غياب المعادل الأوروبي لبنكي فاني ماي وفريدي ماك (بنكي الرهن العقاري شبه العامين في أميركا)، اللذين كانا يتعاملان في الرهون العقارية الأميركية المدعومة بالأوراق المالية.

في اجتماعها الذي استضافته مدينة سانتياغو في تشيلي في نوفمبر، فشلت لجنة "بازل" بوضوح في الاتفاق على أي حل، وأحالت القضية إلى لجنة محافظي ورؤساء الإشراف، التي من المقرر أن تحاول مرة أخرى في يناير.

ومن المحتمل أن يجد أعضاء اللجنة وسيلة لحل هذه المشكلة بعينها، ولكن مستقبل المعايير العالمية يبدو أكثر غموضا مما كان عليه لبعض الوقت، فمنذ أزمة عام 2008، كانت دول عديدة تتخذ تدابير أخرى لحماية أنظمتها المالية، في حين تدعم ظاهريا وضع قواعد عالمية أكثر صرامة.

وقد أظهر انهيار ليمان براذرز وغيره، على حد تعبير محافظ بنك إنكلترا السابق ميرفين كينغ، أن البنوك الكبيرة "عالمية في حياتها، ولكنها وطنية في مماتها". بعبارة أخرى، عندما ينهار بنك عالمي، يتعين على الهيئات التنظيمية في الدولة المضيفة أن تتولى تجميع قطع الحطام المحلية، ولهذا السبب جرى اعتماد متطلبات إنشاء الأفرع المحلية باستخدام رأسمال محلي. وقد ولت الأيام عندما كان بوسع البنوك إقامة أفرع في مختلف أنحاء كوكب الأرض، بدعم من الميزانيات العمومية للبنوك الأصلية، والآن أصبح التفكيك إلى شركات فرعية منفصلة قانونيا ولكنها مرتبطة ماليا هو القاعدة.

عندما نتطلع إلى المستقبل الآن، نستطيع أن نرى أن القوتين الكبريين في مجلس الاستقرار المالي وبازل لديهما اهتمامات أخرى، فقد أشارت إدارة دونالد ترامب المقبلة بالفعل إلى ارتيابها في التشابكات الخارجية والالتزامات الدولية، ومن غير المرجح أن ينطوي جعل أميركا دولة عظيمة مرة أخرى على حماسة جديدة لقواعد أكثر صرامة صُنِعَت في بازل، أما أولئك الذين ينادون بإلغاء قسم كبير من تشريع الإصلاح المالي لصالح نسبة استدانة أعلى، كما يروج مشروع قانون تقدم به الممثل جيب هنسارلينغ، فيتصورون نسخة "صنعت في أميركا" من التنظيم المصرفي، ولكن في حين تنطوي الفكرة على بعض المزايا، فإنها لن تتناسب بسهولة مع إطار بازل الحالي.

وتواجه أوروبا هموما أخرى، فالآن تركز الهيئات التنظيمية بقوة على الآثار المترتبة على الخروج البريطاني، والذي سوف يتطلب ترتيبات معقدة لإدارة علاقة جديدة بين لندن ومنطقة اليورو، ولابد أن تكون الأولوية القصوى للبنك المركزي الأوروبي الحفاظ على سلامة الاتحاد المصرفي للاتحاد الأوروبي، والذي يتعرض للضغوط بفِعل كل من الخروج البريطاني والأزمة التي تجتاح البنوك في إيطاليا.

على هذه الخلفية، يكمن التحدي في الإبقاء على أولوية المعايير العالمية وتأمين المشاركة المستمرة في عملية بازل، وسوف يضطلع المدير الجديد لبنك التسويات الدولية، أوجستين كارستينز، المحافظ السابق للبنك المركزي في المكسيك، بدور أساسي، وهي أيضا حال من سيحل محل مارك كارني (المحافظ الحالي لبنك إنكلترا) في العام المقبل كرئيس لمجلس الاستقرار المالي، ومن المرجح أيضا أن نرى قريبا رئيسا جديدا للجنة بازل ذاتها، فمن المقرر أن يتنحى السويدي ستيفان إنجفيز في يونيو المقبل.

سوف يحتاج هؤلاء القادة الثلاث الجدد إلى كل مهاراتهم الدبلوماسية للإبحار عبر الأمواج السياسية الغادرة، والمخاطر عالية، فإذا تضاءل الالتزام بالمعايير العالمية، فسوف يعاني الجميع في الأمد البعيد، وسوف تفرض الدول متطلبات محلية غير متوافقة، وهو ما من شأنه أن يقلل كفاءة استخدام رأس المال، وأن يجعل النظام أقل قوة في حالة تجدد عدم الاستقرار المالي.

انهيار «ليمان براذرز» وغيره، على حد تعبير ميرفين كينغ، أظهر أن البنوك الكبيرة «عالمية في حياتها وطنية في مماتها»
back to top