ثقافتنا الأدبية دخلت مرحلة جديدة تماما منذ حركة عبدالناصر عام 1952. لقد حطمت سنوات المرحلة الجديدة تحت عجلتها كل ما من شأنه أن يُظهر جيلا مثل جيل طه حسين. هذه المرحلة ذات سمات عربية عامة غير مقتصرة على مصر، لأن كل الأنظمة بعد حركة عبدالناصر استبدلت بفعل حركة انقلابية.

فكرة الثورة لم تخرج من عبقرية الفكر العسكري. العسكريون كانوا أداة لأفكار الثورة الانقلابية الجديدة، التي نشأت وترعرعت في رؤوس المثقفين العرب. هذه الموجة الثورية الانقلابية كانت عالمية بالتأكيد، لكنها أملت على سحنتها العربية مزيدا من الدم المتحمس، الناري، الحارق.

Ad

هذه الأنظمة احتاجت، كما احتاجت كل الأنظمة الشمولية في الغرب، إلى إعلام يدعمها. لكنها قبل أن تفكر في الاستعانة بالمثقف الثوري، وجدت هذا المثقف الثوري جاهزا لبناء أعتى معمار ثقافي إعلامي عرفه العالم. يعتمد كل العناصر التي يطمع إعلام السلطة بتمثلها:

● إلقاء مسحة قداسة على بعض المفاهيم المجردة.

● إلقاء مسحة قداسة على بعض المشاعر الطبيعية، مثل العاطفة الوطنية، القومية، الأممية، الطبقية، وعلى بعض التوجهات العملية، مثل حل مشكلة فلسطين، أو العودة للوحدة العربية، أو تسييس الفوارق الطبقية، لتصبح توجهات مقدسة تثير الذعر.

● إلقاء مسحة قداسة على الأفكار التي اعتمدها الانتماء الأيديولوجي والحزبي.

● إعلاء شأن "الجماهير" كمفهوم نظري، ومحاولة تغييبها عمليا بالضرورة.

● وبالتالي تغليب هذه "الأفكار" المقدسة جميعها على "الإنسان" كقيمة.

● تبني التوجهات الغربية المضادة للعقل، في السعي النظري لتهديم المؤسسة، الدولة، العائلة، اللغة... الخ، تماما كما حدث مع ستينيي الغرب المدللين، البطرين.

هذا المثقف، مثقف الأدب، ابتنى صرح كيانه (المنفصم): إنسان ردود أفعال واستجابات للمصالح الرخيصة، وكيان أفكار غاية في التطرف والخطورة. قصائد تَستخدِم، وتطوّر، القاموس الثوري الانقلابي، على مكتب دائرة الخدمات الإعلامية للسلطات. كل مثقفي هذا الفكر الثوري، جيلا بعد جيل، نشأوا، ونضجوا، وتساموا، على هذه المكاتب، وداخل بهو الثقافة الثورية الرسمية. هل تستطيع أن تتذكر أحدا نشأ، ونضج، وتسامى خارج هذا البهو: خارج الصحافة، المؤسسة الرسمية وغير الرسمية، الإذاعة، التلفزيون، دار النشر... الخ؟ ربما تقول إن الظرف بلغ درجة من الشمول، بحيث من الصعب تخيل أحد خارجه. وأنا أوافقك تماما. فأنا أيضا أسلم بالأمر الواقع. لكن لكي أجد كلمة "مثقف" لائقة بهذا أو ذاك، يتوجب أن أرى فيه إضاءة وعي نقدي لانفصامه، وروح اعتراف بالتورط، وسعي جريح للخلاص. لكن الذي أراه عكس ذلك تماما. ما زال مثقف الأدب يمد الإعلام الرسمي بدم الحياة: من إيهام النفس بأننا بناة حضارة حديثة مثل الغرب، وإلقاء تبعات الموت المجان الذي نعانيه يوميا على الأصابع السحرية الأجنبية، حتى ادعاء الوعي المتفوق في ثقافة صار كل مهرج في سوق السياحة يعرف مقدار هزالها وفقرها.

كنت في المغرب ذات يوم، شاهدت بالمصادفة في مدينة الصويرة البحرية الصغيرة مظاهرة نظمها أحد الأحزاب أو المنظمات. كانت مظاهرة جماهير محدودة ومتواضعة. وكان شعارها الذي تهتف به: "أميركا عدوة الشعوب ـ يكفينا، يكفينا حروب". قلت لصاحبي المغربي: ما لأبناء الصويرة ولأميركا، وما لهم وللحروب البعيدة؟ قال لي: هذه شعارات أحزاب، ثم أعطاني جريدة "الأيام" وأضاف: اقرأ مقالة ممتازة في هذه الصفحة لمثقف مختلف. في الصفحة مقالة بعنوان "تهجير الأحزان". يريد أن يقول فيها إن هناك دعاوى لا تنطفئ لإعلاء شأن القضايا الكبرى: قضية فلسطين، الغزو الأميركي، بهدف تغييب قضايا الناس التي يريدون لها أن تبدو صغيرة، وثانوية. هذا التهجير للحزن الشعبي المرير إلى الأحزان المجردة العليا، لم أره في هذه المظاهرة البائسة فقط، بل أطل ويطل عليَّ دائما من معظم نتاج الطليعة الثورية الانقلابية العربية منذ أكثر من نصف قرن.