لقد نشأت وسائل الإعلام الجماهيرية في العالم العربي في كنف الدولة؛ مكرسة وظيفة دعائية لمصالح الأنظمة الحاكمة، ومتحررة من قيود الجدوى الاستثمارية وحسابات العوائد المالية، ومعفاة من الخضوع للتقييم الفني، طالما أنها تنجح في أداء وظيفتها السياسية.

لم يكن هذا دأب وسائل الإعلام المملوكة للدولة في العالم العربي فقط؛ لكن حدث شيء مماثل في ما عُرف خلال فترة الحرب الباردة بـ"دول المعسكر الاشتراكي"، بل إن وسائل الإعلام الألمانية والإيطالية أدت الأدوار نفسها عشية الحرب العالمية الثانية، وقبل اندحار النازية والفاشية.

Ad

لهذا السبب ظل الالتباس قائماً في تسمية وسائل الإعلام المملوكة للدولة، والتي عُرفت على نطاق واسع بأنها "وسائل الإعلام الرسمية" أو "وسائل الإعلام الحكومية"، في الوقت الذي كان يجب فيه أن تُعرف بأنها وسائل الإعلام "العمومية" أو "العامة".

تعرف دول ديمقراطية متقدمة عديدة نمط "الإعلام المملوك للدولة"، حيث يُنظر إلى الدولة في هذا الإطار باعتبارها "المجموع العام"، لا الحكومة (السلطة التنفيذية) فقط، ولا النظام (مجموع الأجهزة والكيانات المتحكمة في الأداء العام) فقط، ولكن بوصفها كياناً أوسع يعمل في إطار تحقيق المصلحة العامة، كما يشخصها المواطنون عبر وسائل المشاركة الديمقراطية. وقد نشأ مصطلح "إعلام الخدمة العامة" public Service Media في هذا الإطار، ليشير إلى منظومة من وسائل الإعلام التي تعمل على تحقيق أهداف وطنية؛ منها الحفاظ على الوحدة والاندماج الوطنيين، وتمثيل الفئات المختلفة في المجتمع تمثيلاً عادلاً، وتيسير المشاركة السياسية والمجتمعية، وبلورة الشعور الوطني، وتعزيز الانتماء.

وللقيام بهذا الدور على النحو الأمثل؛ فقد برزت تجارب عدة؛ أهمها تجربة هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، وهي تجارب انطلقت في عملها من واقع سياسي يمكن وصفه بأنه "مستقر"، و"ديمقراطي"، يعتمد منهجاً ثابتاً في الفصل بين السلطات، والتوازن والتحقق المتبادل بينها.

لكن بسبب عجز وسائل الإعلام العامة العربية عن تطوير أدائها، وتسخير نفسها لخدمة السلطة التنفيذية، التي استطاعت أن تهيمن عليها، وتحولها عن وظائفها الحيوية الأساسية، وتختزل دورها في الوظيفة الدعائية، بدأت الحاجة تنشأ لدى الجمهور إلى بديل، خصوصاً في أوقات الغموض والخطر وعند اتخاذ القرارات وتكوين الآراء.

كانت "حرب تحرير الكويت" 1991 نقطة تحول جوهرية في مسار الإعلام العربي؛ إذ حققت شبكة "سي إن إن" الإخبارية الأميركية نقلة نوعية في تغطية الأحداث المهمة، عبر بثها الحرب بثاً حياً.

أدركت الدول العربية آنذاك ضرورة أن تحرر أداءها الإخباري، لكن معظم تلك الدول لم تكن تملك القدرات الكافية ولا المرونة اللازمة لتحرير طاقات وسائل الإعلام العامة، التي أرهقتها البيروقراطية، وأثقلت حركتها الخبرات الدعائية المتوطنة في أدائها.

لذلك، فقد انطلقت مؤسسات إعلامية خاصة، وإن كان القائمون على إطلاقها مرتبطين ببعض الحكومات العربية، سعياً إلى تطوير الأداء، ومجاراة الأساليب الحديثة في مجال الإعلام عموماً، والإعلام التلفزيوني خصوصاً.

وانطلقت "إم بي سي" و"أوربت" من لندن، كما انطلقت "إيه أر تي" من روما، في مطلع التسعينيات الفائتة، قبل أن تطلق قطر قناة "الجزيرة" في 1996.

وفي غضون ذلك، كانت مصر قد أطلقت القمر الاصطناعي "نايل سات"، ثم بدأت القنوات الفضائية الخاصة مثل "دريم" و"المحور" في الصدور، وهو الأمر الذي أخذ يتكرر في الأردن، والمغرب، وتونس، والإمارات العربية المتحدة، وغيرها من الدول العربية.

ومع غزو العراق في عام 2003، تحول هذا البلد الذي لم يكن يعرف سوى عدد محدود من محطات التلفزيون والصحف إلى بيئة ثرية وخصبة لإطلاق الفضائيات والمشاريع الإعلامية، وهي المشاريع التي حمل بعضها للأسف حساً طائفياً واضحاً.

يشير "التقرير السنوي حول البث الفضائي العربي 2015"، الصادر عن اتحاد إذاعات الدول العربية، إلى زيادة كبيرة في عدد القنوات الفضائية العربية التي بلغت أكثر من ألف قناة حالياً في مقابل ما يرواح ما بين 20 إلى 30 قناة في مطلع التسعينيات الفائتة.

ويؤكد التقرير أن الفضل في الطفرة الحالية يرجع إلى ازدهار وسائل الإعلام الخاصة، بفضل الثورة التكنولوجية الرقمية، والتكلفة المنخفضة للإنتاج في ظل التقدم التقاني، والتفاعل المثمر بين تكنولوجيا التلفزيون والأقمار الاصطناعية والحاسوب.

ويمكن القول إن احتكار الدولة لمجال البث التلفزيوني قد سقط مع مطلع الألفية الجديدة سقوطاً واضحاً، وتحولت الدولة، بكل ما تملكه وتتحكم فيه من وسائل إعلام عامة، إلى لاعب في الميدان الإعلامي بعدما كانت المتحكم الوحيد، أو صاحب أكبر حصة.

وبحسب تقرير اتحاد إذاعات الدول العربية ثمة 819 هيئة بث فضائي عربية؛ منها 27 هيئة عمومية فقط، و792 هيئة في القطاع الخاص، وتبث تلك الهيئات مجتمعة نحو 1230 قناة.

لم تنجح وسائل الإعلام الخاصة التي تكاثرت كالفطر في العقدين الماضيين في تقديم محتوى متناسب مع التطلعات؛ إذ أفاد تحليل مضامين أجري لعدد من كبريات المؤسسات التلفزيونية العربية أن نحو 62% من ساعات البث عبارة عن برامج جاهزة مستوردة ومدبلجة، وأن 55% من المحتوى عبارة عن إنتاج درامي ترفيهي ورياضي، في ما لا تتعدى نسبة المحتوى التربوي والثقافي 14%.

ويبدو أن الإعلام الخاص في العالم العربي كان أكثر قدرة على جذب العائدات الإعلانية أو التمويلات، وأقل إنفاقاً على الإنتاج في الوقت نفسه.

ومن ناحية أخرى، فإن المحتوى الترفيهي الذي تقدمه وسائل إعلام خاصة عدة يجذب المشاهدات والقراءات، بسبب النزعة التجارية التي ينطوي عليها، وهي النزعة التي يُحرم منها الإعلام العام، بسبب القيود المفروضة على أدائه، وسمته المحافظ والرسمي.

لهذه الأسباب يستأثر الإعلام الخاص بعائدات إعلانية كبيرة مقارنة بالإعلام العمومي، ويحرم هذا الأخير من القدرة على توليد عوائد تمكنه من الإنفاق على عملياته الإنتاجية.

الإعلام العمومي العربي يعاني تراجعاً كبيراً في هذه الآونة، والإعلام الخاص "المزدهر" لا يستطيع تعويض مزاياه والنهوض بأدواره، لذلك فإن الدول العربية مطالبة بدعم الإعلام العمومي وتطويره وإخراجه من عثرته.

* كاتب مصري