ظلّت السينما المصرية بمنأى عن تناول ظاهرة الهجرة غير الشرعية فيما اقتربت الأفلام المغاربية، مثل «حراقة بلوز» للجزائري موسى حداد و{حراقة» للجزائري المهاجر مرزاق علواش و{خسوف» للتونسي الفاضل الجزيري، بشكل مهموم من قضية هجرة شباب المغرب العربي إلى أوروبا، بكل ما في الرحلة غير الشرعية من أخطار محدقة، وويلات مؤكدة. ومع تفاقم الظاهرة، ووصولها إلى «الشاطئ المصري»، استفاقت السينما المصرية من غيبوبتها، واتجهت إلى الاقتراب من القضية، كما فعل فيلم «البر التاني»، الذي استلهم أحداثه، كما الفيلمان الجزائريان، من وقائع، ومعلومات، نشرتها الصحف ووسائل الإعلام، بالإضافة إلى روايات شهود العيان أو ضحايا «الوهم القاتل». ومثلما اعتمد «حراقة» على ثلاث شخصيات رئيسة، هم الأصدقاء: رشيد، ناصر، وإيمان، انطلقت رحلة «البر التاني» مع «سعيد» (محمد علي)، «عماد» (عمرو القاضي) و{مجدي» (محمد مهران)، فيما اجتمعت الأفلام كافة التي تناولت الظاهرة على تطبيق أول شرط من شروط الهجرة غير الشرعية، والمتمثل في قيام المهاجرين غير الشرعيين بتمزيق الهوية، والأوراق الثبوتية، قبل بدء رحلة الإبحار، كضمانة لعدم تعرف حرس السواحل إليهم، وإعادتهم في حال القبض عليهم إلى أوطانهم!

في «البر التاني» إدانة صارخة للفقر «أم المشاكل»، فالبطل «سعيد» (محمد علي) يحلم بالسفر لانتشال والده الضرير (عبد العزيز مخيون) وأمه البائسة (عفاف شعيب) من هوة الفقر المدقع، و{عماد» (عمرو القاضي) يسعى إلى «الستر» له ولشقيقاته البنات. أما «مجدي» (محمد مهران) فيطمح إلى الاستقلال عن أمه (حنان سليمان) التي دللته كثيراً كونه وحيدها الذي لم تنجب سواه. وربما يرى البعض أنها أسباب فردية لكنها كافية، في نظر كاتبة القصة والسيناريو والحوار زينب عزيز والمخرج علي إدريس، مع القصص الأخرى للضحايا الذين لم تتسع المساحة الدرامية للتوقف عندها، لرصد الظاهرة، وكشف الدوافع التي تقف وراء تفاقمها، من دون التبرع بطرح حلول لها، لأنها لم تكن يوماً مهمة الفن، وإن وضع الفيلم أيدينا على أولئك المجرمين المسؤولين عن استمرار الظاهرة، كالسماسرة (بيومي فؤاد في الفيلم) وأصحاب المراكب غير المطابقة للمواصفات، الذين يصبون جل اهتمامهم على إغواء أكبر عدد من الضحايا طمعاً في تحقيق مكاسب مادية أكبر، وهي الأطراف، فضلاً عن الأوضاع الاقتصادية الصعبة، التي ينبغي للدول أن تُحكم الحصار عليها، كي لا يخرج من بين الشباب من لا يأبه بخطورة الهجرة غير الشرعية، والموت الذي ينتظره في غياهب البحر، بحجة أنه «كده كده ميت»!

Ad

انشغل كثيرون بقضية البطل الذي «يمثل بفلوسه»، وتجاهلوا حرص المخرج على التفاصيل الصغيرة، كالهالات السوداء تحت العيون، علامة الإنهاك، والإرهاق من هول وفظائع المواجهة اليومية للفقر، والتأكيد القاطع أن الكساد الاقتصادي يمنع الخير، ويوغر القلوب، والإسقاط في تحميل «رئيس جمهورية المركب»، كما وصف نفسه، المسؤولية عما حدث من جريمة منظمة، وافتقاده المواصفات التي تؤهله للقيادة، نتيجة للرعب الذي تملكه، وفقدانه الثقة والخبرة المطلوبين في مثل هذه الأحوال، ما دعاه إلى عدم تقدير الموقف، وإخفاء الحقيقة. ذلك فضلاً عن نجاح المخرج في إبداع لغة بصرية مبهرة (تصوير وإضاءة مدير التصوير المصري أحمد عبد العزيز ومدير التصوير الإسباني أوسكار فيليسس) كالغلالة الرقيقة، وتلوين الصورة، في مشاهد استرجاع الماضي، وتكثيف الرعب في مشاهد غضب البحر، والأمواج المتلاطمة، والوهم الذي يلوح على الشاطئ الآخر في «البر التاني»، وقفز البطل في البحر ليتشبث به، والجرأة في اتهام خفر السواحل الإيطاليين لتقاضي الرشوة، وكأنهم يشجعون ظاهرة الهجرة غير الشرعية في الخفاء فيما تحاربها دولهم في العلن، والفهم الخاطئ في تفسير الدين بحجة أن «الأعمار بيد الله» بينما تجاهلوا قوله تعالى: «وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ»، وتعمد الفيلم تلاوة الآية الكريمة «وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ»، وكأنه يصف حال هذه الفئة الضالة!

شيء مما أشرنا إليه لم يحل دون ارتكاب الفيلم أخطاء عدة، بسبب الارتجال والسطحية وغياب التدقيق والعشوائية في تناول الظاهرة، وهو الأمر الذي لم تُفلح معه الموازنة الضخمة، التي قيل إنها وصلت إلى 25 مليون جنيه مصري، إذ إن أحداً لم يستشعر مطلقاً أن الفيلم صور في إيطاليا ورومانيا وإسبانيا، كما أن أحداً لم يستسغ انطلاق صوت محمد رشدي وهو يغني «طاير يا هوا» في عرض البحر بينما تشدو أم كلثوم «تفيد بأيه يا ندم وتعمل أيه يا عتاب» في «فات الميعاد»، وكأنها نزهة بحرية فيما جاءت الموسيقى التصويرية «كابوسية» وكأنها تنافس النهاية السيئة لأشلاء الضحايا وهي مبعثرة في «البر التاني»!