مع أهمية النقاش الذي يدور حول مدى وجود عجز حقيقي في الميزانية العامة للدولة بعد الفوائض المالية الضخمة التي تراكمت خلال العقد الماضي نتيجة ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية، فضلاً عن فوائد الصناديق السيادية، إلا أن ذلك ينبغي ألا يشغلنا عن، أو ينسينا، ضرورة الإصلاح الاقتصادي-المالي. بمعنى آخر فإن الخلاف السياسي يجب ألا يكون حول مدى ضرورة الإصلاح الاقتصادي والمالي فهو ضروري في جميع الأوقات، إنما حول كيفية تحقيقه، فحتى لو كان العجز المالي الذي تتحدث عنه الحكومة مجرد عجز دفتري لا حقيقي فإن استمرار الوضع الاقتصادي-المالي المُختل معناه أننا حتماً سنواجه في السنوات القليلة القادمة مشاكل اقتصادية صعبة، في مقدمتها ارتفاع معدلات البطالة والعجز المالي الحقيقي.

ما سبق أن طرحته الحكومة في خطتها "التنموية" ثم في وثيقتها الاقتصادية التي تقوم هذه الأيام بعملية تسويقها إعلامياً هو، كما ذكرنا مراراً وتكراراً، عبارة عن سياسات اقتصادية ومالية منحازة اجتماعياً ضد "الطبقة المتوسطة" والفقراء، إذ إنها تُركّز على جباية الأموال من جيوب المواطنين عن طريق إلغاء الدعم الاجتماعي الضروري، وفرض رسوم جديدة أو زيادة الحالية، علاوة على فرض ضرائب غير مباشرة على الدخل مثل ضريبة القيمة المضافة وضريبة المبيعات، أي تحميل المواطنين أصحاب الدخول المتوسطة والدنيا وحدهم عبء العجز المالي والمشاكل الاقتصادية، في حين أنها تتجنب الحديث عن النظام الضريبي الذي يحقق العدالة الاجتماعية (تطرقنا في مقالات سابقة لقواعده وشروطه وضوابطه) وهو نظام الضرائب التصاعدية على الدخل والأرباح والثروة الذي يستثني أصحاب الدخول المنخفضة، فالمادة (24) من الدستور تنص على أن "العدالة الاجتماعية أساس الضرائب والتكاليف العامة".

Ad

بصياغة أخرى فإن ما يسمى الوثيقة الاقتصادية تتجاهل موضوع الإصلاح الاقتصادي الحقيقي والمُستحق الذي يعالج الاختلالات الرئيسة في الاقتصاد الوطني، والذي لا يمكن تحقيقه من دون إصلاح سياسي-ديمقراطي جذري وشامل. وحيث إن إصلاح الاقتصاد الوطني والمالية العامة للدولة مُستحق قبل أن يرتفع العجز المالي فنتعرض لمخاطر الدين العام، وبالتالي ينخفض المستوى العام لمعيشة الغالبية الساحقة وتتسع الفوارق الطبقية فتزداد فرص عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وإن رفض ما يُسمى الوثيقة الاقتصادية غير كاف ما لم يترافق مع تقديم بدائل جديدة للإصلاح الاقتصادي مثل نظام الضرائب التصاعدية على الدخل والأرباح والثروة، بحيث تحل محل ما تقدمه الحكومة من سياسات اقتصادية ومالية منحازة وغير عادلة اجتماعياً.