كانت معضلة الأقليات الدينية والعرقية في الماضي على امتداد ألف سنة في المجتمعات الإسلامية معضلة قيود وحدود، وأصبحت الْيَوْمَ معضلة بقاء ووجود، كانوا في الماضي يطالبون بحقوقهم الدينية والمدنية المتساوية مع إخوانهم الأكثرية المسلمة، في المناصب العامة: المدنية والعسكرية، وبناء دور العبادة، وإلغاء كل مظاهر التمييز الديني ضدهم، سواء في مناهج التعليم أو الإعلام أو المنابر الدينية أو التشريعات، وبخاصة تشريعات اكتساب الجنسية، وأصبحوا الْيَوْمَ يطالبون بحمايتهم من الفناء أو التهجير.

وبعد أن تفنن أعداء الحياة من الإرهابيين وصناع الكراهية من المحرضين في التنكيل بهم، وتصفيتهم وزرع الرعب في نفوس من تبقى منهم، ابتدعوا وسائل جديدة في التخلص من الأقليات، وعمدوا إلى تفجير دور عبادتهم واستهدافهم في أيّام أعيادهم وحفلاتهم وأفراحهم برأس السنة الميلادية، فلبث أكبر قدر من الفزع والحزن في نفوسهم، وسعوا إلى خطفهم وسبي نسائهم وبيعهن في العراق وسورية. وقد مثل العام الماضي عام المعاناة الشديدة بالنسبة إلى الأقليات وكل المكونات الصغرى في العالم العربي: السبي الداعشي الوحشي للأيزيديات والاتجار بهن في سوق النخاسة من ناحية، والنزوح المسيحي الجماعي من المدن العراقية إلى أوروبا، خمسون ألف مسيحي غادروا العراق خلال عام 2016 من ناحية ثانية، وتعرض الأقباط في مصر لحوادث أليمة في عدة مدن، أخطرها تفجير انتحاري داخل الكنيسة البطرسية، أسفر عن قتل 40 مواطناً، أغلبهم نساء وأطفال كانوا يقيمون قداساً من ناحية ثالثة، أما الأقليات الدرزية والإسماعيلية في سورية فقد هجرت مواطنها إلى الساحل، ولَم يبق من الصابئة المندانيين، صاغة الذهب والفضة، غير 5 آلاف في العراق، لذلك قيل بحق إنه عام معاناة المكونات الصغرى، والتساؤل المطروح: لماذا اشتداد العداء للمكونات الدينية الصغرى في المنطقة العربية، إلى درجة الإبادة الجماعية؟

Ad

تأتي هذه الكوارث المأساوية للأقليات الدينية، في أعقاب سلسلة من المؤتمرات الحوارية الدولية النشطة: سواء بين الأديان، أو الحضارات والثقافات، أو المذاهب الإسلامية، أو الشرق والغرب، شهدتها المنطقة خلال عقد ونصف، بعد كارثة الحادي عشر من سبتمبر، كانت تهدف إلى احتواء النزاعات، وتحجيم الخلافات، وتوسيع مساحة الاتفاقات، ونزع فتيل الكراهيات.

وقد حظيت الدوحة باستقطاب النصيب الأوفى من هذه المؤتمرات، ورغم حماسة المنظمين والمؤتمرين، وصدق نواياهم، ونبل أهدافهم في التوصل إلى صيغ تعايشية، تحترم الاختلاف الديني والمذهبي، وتحجم عوامل سوء التفاهم، طبقاً للقاعدة الذهبية لثقافة الحوار: نتعاون فيما اتفقنا ويعذر بَعضُنَا بعضاً فيما اختلفنا، فإن المحصلة النهائية لهذه المؤتمرات لم تحقق الأهداف المنشودة، وأبرزها: تحقيق التعايش المشترك، وترسيخ السلام بين أتباع الأديان والمذاهب المختلفة، وهذه النتيجة الصادمة تدفعنا إلى التساؤل: لماذا لم تتحقق الأهداف؟ وهل معنى ذلك فشل هذه الموتمرات؟

أولاً: من الظلم المعرفي والأخلاقي تحميل مسؤولية الفشل في ترسيخ ثقافة التسامح لمؤتمرات حوار الأديان، في مجتمعات محكومة بعادات وتقاليد راسخة، ومواريث ثقافية سائدة، ومفاهيم دينية محرفة، تسيطر على عقول وأفئدة قطاعات مجتمعية عريضة، ترى في تحية النصارى أو المشاركة في أعيادهم أمراً محرماً، وأن من موجبات صحة إيمان المسلم وجوب إضمار الكراهية لهم، وإن تعاملوا بالحسنى.

ثانياً: هناك منظومات عديدة في المجتمع تربوية وتعليمية وثقافية ودعوية وغيرها تتحمل المسؤولية الكبرى عن تغيير الثقافة المجتمعية والتوجهات العامة.

ثالثاً: على خلاف من يتشككون في جدوى هذه المؤتمرات، فهذه النتائج تدفعنا إلى جهد أكبر في مزيد من لقاءات التقارب والحوار والتعاون وفق منظور جديد.

رابعاً: علينا تطوير مفهوم مؤتمرات الحوار عبر ثقافة للحوار البنّاء، تقوم على إدارة الاختلاف، من منطلق السعي إلى معرفة ما عند الآخر على حقيقته مباشرة، وتلمس الأعذار له، وإحسان الظن به، والاستعداد المتبادل للاعتراف بالأخطاء عند كل طرف تجاه الآخر، كما ينبغي ألا يكون الهدف إفحام الخصم والتغلب عليه، وتحقيق الانتصار وتسجيل نقاط، كما يحصل في المبارزات، فهذا لا يبني حواراً مثمراً بل يغذي شقاقاً.

* كاتب قطري