الحتمية التاريخية في نظرية فوكوياما
صدر كتاب "نهاية التاريخ" لفرانسيس فوكوياما الأميركي الياباني الأصل عام 1992م وقرأته عدة مرات، كما تابعت ما كتب عنه وخصوصا كتاب د. غالي شكري "بداية التاريخ" الصادر عام 1993. وبعض الكتابات تدفعك للعودة إليها لا سيما إذا كانت تطرح جديداً على مستوى الفكر، ومنها كتاب فوكوياما الذي نحن بصدد الحديث عنه، فقد أثار كتابه ضجة على المستوى الفكري وردود فعل واسعة، واشتهر كاتبه لدى النخبة المثقفة في عالمنا العربي. نثير في البداية أهم القضايا التي عالجها الكتاب ثم رأينا فيه:
أولاً: يعتقد فوكوياما أن الديمقراطية الغربية بزعامة أميركا قد انتصرت، وانهارت وسقطت الماركسية بتفكك الاتحاد السوفياتي وسقوطه، هذا الانتصار أغلق باب التاريخ حيث وصل إلى نهايته! وفرض التحدي الديمقراطي الليبرالي الغربي نفسه على العالم، وهو الأيديولوجية الجديدة الدائمة لحكم البشرية! ودافع فوكوياما عن نظريته بأن فهمه للتاريخ مختلفٌ ويتخطى التاريخ التقليدي، والتطور التاريخي له نهاية حتمية هي التي توصل إليها، وهي الديمقراطية الليبرالية بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، ويمكن إثارة عدة أسئلة حول الحتمية التاريخية التي طرحها فوكوياما: هل التطور الأيديولوجي، بسيادة أيديولوجيةٍ ما على الأيديولوجيات الأخرى، حتمية في التاريخ؟ إن دراسة متأنية للفكر التاريخي لا تدل على ذلك، فأحداثه تدل على عدم وضع حد لمنظور الأيديولوجيات، وإن سيادة أيديولوجية معينة وارد في مرحلة تاريخية معينة، وإن هزيمة أيديولوجية وسقوطها ممكنٌ، كما أن عودة بعضها بصيغة أو بأخرى ممكنٌ أيضاً، فقد سقط الاتحاد السوفياتي عام 1990، لكن هل سقطت الماركسية التي كيفت نفسها في الصين وكوريا وبعض دول أميركا اللاتينية؟ وهل التبشير بفجر جديد لأيديولوجية وحيدة هي الديمقراطية الليبرالية التي، كما يرى فوكوياما، نجحت في الولايات المتحدة الأميركية، أمر عادل ويساعد النظام الأميركي على انتشارها وتحقيقها في دول أخرى، أم أن زعيمة هذه الأيديولوجية تمارس براغماتية مصلحية بعكس مبادئها في دول أخرى في العالم الثالث؟! وهل قاد سعي زعيمة الحرية والليبرالية الديمقراطية الفوكويامية إلى التبشير بها في العراق بعد احتلاله عام 2003، وفي تجارب أخرى في آسيا وإفريقيا وأميركا الجنوبية؟! ثم ألا تحمل الرأسمالية بذور فنائها ونهاية تاريخها؟ كما أن السؤال يطرح نفسه كذلك: هل يعني سقوط الاتحاد السوفياتي نهاية الماركسية، وبذلك نهاية التاريخ؟ وهل للتاريخ نهاية على مستوى الفكر والأحداث؟ ثم ما الآثار الجانبية السلبية لسيادة قطب واحد وقيادته للعالم؟ ألا يتناقض ذلك مع التعددية التي تنادي بها الديمقراطية الليبرالية؟ إن كاتب هذه الأسطر يؤمن بالديمقراطية الليبرالية، ولكن لا يعتقد أن أميركا مثالٌ لتطبيقها، وهي نظرية اليوم لكنها ليست حتمية، وهناك أشكالٌ من السياسات بزعامة أميركا وغيرها تمارس خارج الولايات المتحدة باسم هذه النظرية، وهي أبعد ما تكون عن جوهر مبادئها. لقد نجحت في أوروبا ولم يثبت نجاحها في أميركا. وهي الأيديولوجية الدينية التي تتشكل بين فترة وأخرى عبر عصور التاريخ، وقد مضى عصر الإقطاع والرق معه ولكنه يتجدد بصورة أخرى! فأين حتمية التطور من حالة تاريخية لأخرى عندما يرتبها فوكوياما من القبلية إلى الإقطاع إلى التطور الصناعي الرأسمالي؟ نعم هذه التراتبية منطقية لكنها ليست صحيحة، فالقضية ليست نظرية سياسية فحسب؛ لأن التطور التاريخي شامل بجمع الأزمنة في زمن واحد، فالحاضر جذوره في الماضي وهو أساس المستقبل. إن التطور التاريخي للشعوب قد مرَّ بعدة مراحل من القبلية إلى الإقطاع إلى الرأسمالية الصناعية عبر حداثة ليبرالية وعلمانية، ولكن ذلك التطور قد مر في الوقت نفسه بانتكاسات تعود إلى الوراء لتعيد إنتاج مراحل انتهت مقومات وجودها، كما يحدث اليوم بشيوع الإثنية الطائفية والقبلية، وهذا يعود بنا إلى البدايات لنطرح قضية الحرية وحقوق الإنسان من جديد. لقد حسم المفكر فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ" أن الديمقراطية الليبرالية الغربية هي الشكل النهائي للحكم البشري، ولكن كيف يتحقق ذلك؟ هذا ما ىلم يجب عنه!والسؤال كيف ينسجم ذلك مع الواقع الذي يعج بسعي دول ديمقراطية ليبرالية إلى تفكيك مجتمعات والعودة بها إلى مراحل سابقة على التقدمية الغربية الليبرالية الديمقراطية؟! فهل تصلح تراتبية المراحل التاريخية في الغرب لنا في الشرق وفي المجتمعات العربية خاصة؟ بمعنى هل يمكن أن نبدأ بالقبلية فالإقطاع فالرأسمالية الصناعية والتكنولوجية لتحقق الليبرالية الديمقراطية؟ أم أن هناك ظروفاً خاصة بهذه المجتمعات، إضافة إلى أن مستجدات التطور تفرض نمطاً مختلفاً يتخطى تلك التراتبية التاريخية، وهناك أمثلة عليها في الصين واليابان مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلاف الأيديولوجي؟ ثم نطرح سؤالا جدلياً كرد على كتاب الفيلسوف فوكوياما، فقد طرح علينا من يقول عكس ما ذهب إليه فوكوياما، كما ورد في كتاب د. غالي شكري "بداية التاريخ"، الذي طرح هو أو غيره نظرية مختلفة ليست في إطار الحتمية التي طرحها فوكوياما، فما الموقف؟ وهل نحن على أعتاب مرحلة أخرى لتفكيك نظرية فوكوياما؟