لأنه فيلم حقيقي نجح في الاشتباك مع الواقع الراهن، وأيقظ في الناس مشاعر تبلدت، وألقى حجراً في المياه الراكدة، كانت الضجة التي أثيرت ضده، وشمّر البعض عن ساعديه، وقرر مقاضاته والمطالبة بإيقاف عرضه، بعد أن فضح «مولانا» وعرى الجهلة أصحاب العقول الخربة، المتاجرين بالدين، والمتربحين من الدعوة، فاتهموه بـ «محاولة ضرب ثوابت الأمة، وإهانة علماء الدين ممن يهدون الناس سواء السبيل»! «مولانا» هنا هو الفيلم المأخوذ عن قصة بالعنوان نفسه للكاتب الصحافي إبراهيم عيسى، الذي كتب الحوار، فيما كتب السيناريو وأخرجه للشاشة مجدي أحمد علي، ويتناول ظاهرة «شيوخ الفضائيات» ممن اصطلح على تسميتهم «الدعاة الكاجوال»، وقصة صعود أحدهم «حاتم الشناوي» (عمرو سعد)، الذي تستطيع أن تتعرف من خلاله إلى وجوه شيوخ كثر امتلأت بهم الساحة، ولفظتهم الفضائيات في وجوهنا بوصفهم «النجوم الجدد»، بينما هو، وغيره، في حقيقة الأمر نموذج للطفيليين الأقرب في كينونتهم، وانتهازيتهم، إلى «أثرياء الحرب»، الذين اغتنوا في زمن النكسات والانكسارات!
الموقف المناهض يتجلى منذ اللحظة التي تركّز فيها الكاميرا (أحمد بشاري) على الملصق الدعائي للمسلسل الأميركي الشهير «الجريء والجميلات» (1987)، في تحديد غير مباشر للحقبة الزمنية للأحداث، وفي ما يشبه الإسقاط على «الجريء»، الذي خدمته الأقدار عندما تمت الاستعانة به ليلقي الخطبة أمام كبار المسؤولين، بدلاً من الشيخ «فتحي المعداوي» (أحمد راتب) الذي أصيب بإعياء. ومن يومها «ركب ولم ينزل»، بعد أن دخل العقول، واستحوذ على المشاعر والقلوب، وبدا أمام العامة والخاصة بمظهر الزاهد الذي لا يتكالب على منصب، ويُدرك مشقته، ويؤمن بقول رسول الله لأبي ذر عندما طلب الإمارة : «يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها»، وسرعان ما هجر صورة الشيخ الأزهري المجهول ليصبح أهم داعية، سواء على الشاشة أو على أرض الواقع!كنت أتمنى أن يسير الفيلم على هذا النهج الكاشف للنموذج «الظاهرة»، الذي يُدرك طبيعة الدور الذي يلعبه في برنامجه «افهم دينك»، والفاضح، ربما من دون أن يدري، للإعلام المراوغ الممثل في المحاور اللزج عين السلطة وحليفها «أنور عثمان» (بيومي فؤاد)، والراعي الرسمي للبرنامج «خالد أبو حديد» (لطفي لبيب)، الذي يكرس زواج السلطة والثروة والدين، وكان «حاتم» صادقاً مع نفسه كثيراً عندما وصفه بقوله: «بيغسل سمعته الوسخة ويعمل دعاية وأنا كل يوم شهرتي بتزيد». لكن الفيلم انحرف بعيداً عن هذا النهج المثير للجدل، وأراد، كما الرواية الأصلية، تفكـيك شخـصيته من الداخل، سعياً وراء إبراز نقاط ضعفه وإنسانيته، والتأكيد أنه صاحب شخصية مركبة. وهنا كان مقتل الفيلم، ونقطة ضعفه، فالعلاقة العاطفية مع «أميمة» (درة) لم تكن مُشبعة، ويعتريها خلل وتوتر طوال الوقت، وخوفه على طفله «عمر» (إياد كرم) بدا مرضياً (يوخزه في منتصف الليل وهو نائم ليطمئن أنه حي!) أكثر منه خوف الرجل الذي أنجب بعد سبع سنوات زواج، ومن ثم جاء حزنه على الطفل الذي دخل في غيبوبة، بعد غرقه في حمام السباحة، في ظل انشغال الأب بالتصوير مع المعجبين، مبالغ فيه بدرجة كبيرة. والأمر نفسه ينطبق على توظيف مقطع «حطيت على القلب إيدي وأنا بأودع حبيبي» من أغنية «الأولة في الغرام» لأم كلثوم مع سفر الابن للعلاج في الخارج، والنصيحة العجيبة للزوجة: «مش كويس الولد يشوفك دلوقت!».تكمن أزمة «مولانا» في صوته العالي، الذي تستشعر معه وكأنك تستمع طوال الوقت لصوت إبراهيم عيسى، في «المقال» أو في برامجه التلفزيونية المتعاقبة، فالانحياز مطلق إلى الصوفيين، والكراهية تامة للسلفيين والشيوخ المرتشين الأكلة على الموائد كافة، وفي التنصير مبالغة وتهويل، والشيعة تتعرض للدهس والحرق، على مرأى ومَسْمَع، وبتحريض سافر، من أجهزة أمن الدولة، و{عيسى» هو من يؤمن بأن «المسيحية لما خرجت من بيت لحم بقيت سياسة والإسلام بوفاة النبي بقي سياسة»، بمعنى أن الشخصيات تتكلم بلسانه، وليس من عندياتها. وكان لتغييب اللغة السينمائية الدور في غياب الترجمة البصرية لهذه الصراعات، والتناقضات، الجدلية، مع الاعتراف، بغير مجاملة، بجرأة المخرج مجدي أحمد علي في اختيار هذه القضية الشائكة، وجهده الملحوظ في لملمة الخطوط المتشعبة الكثيرة، والحد من «الثرثرة» التي اهتمت بالتركيز على «نميمة» تناقلتها الألسنة، ولم يكن الفيلم مكانها، كما الحديث عن نوبة الصرع التي تهاجم «جلال»، ووقائع عرفها الشارع، كما في ضم «مولانا» إلى فريق كرة القدم من باب {التبرك»، وإن بقي تجسيد عمرو سعد للشخصية طاغياً، وقدرته على التقمص ملحوظة، رغم شبح أحمد زكي الذي طارده، وصدقه وهو يتبنى مقولة الفيلم: «إنني لا أستطيع قول الحقيقة كلها لكنني أبذل طاقتي كي لا أنطق بغيرها!».
توابل - سيما
«مولانا»!
13-01-2017