مجلس الدولة قضاء شامخ
نشأ مجلس الدولة في مصر بمرسوم بقانون صدر عام 1946، ليختص وحده دون غيره برقابة المشروعية على قرارات السلطة التنفيذية، إلغاءً وتعويضا، فمدّ رقابته إلى أعمال السلطة التشريعية، ليبسط رقابة القضاء لأول مرة على القوانين المخالفة للدستور، في حكم أصدره في أول فبراير عام 1948 فكان بذلك قضاءً شامخا منذ نعومة أظفاره، وقبلها في عام 1947 انتصف للحريات العامة وحرية الصحافة من قرارات جائرة أصدرتها الحكومة بمنع صدور صحيفة للمعارضة، ولما تولت المعارضة الحكم في عام 1951، انتصف مجلس الدولة من الحكومة التي كانت في مقاعد المعارضة بالأمس، بإلغاء قرارها الجائر بمنع إحدى صحف المعارضة من الصدور.وظل مجلس الدولة يتابع مسيرته في صون الحقوق وحماية الحريات، بالرغم من كل ما تعرض له من عدوان إثر عدوان، بدأ في عهد الملكية بالطلب من رئيسه د. عبدالرزاق السنهوري الاستقالة، وفي عهد الثورة بالاعتداء عليه بالضرب من مجموعة من المرتزقة، شكلت مظاهرة لحماية الثورة، ثم بصدور قانون بإعادة تشكيله لفصل رئيسه وعدد من مستشاريه في عام 1954، وعدد آخر في مذبحة القضاء عام 1969، ثم الامتناع عن تنفيذ أحكامه فيما يخص شرعية الانتخابات التي كانت تجري في عهد مبارك، بدعوى أن مجلس الشعب سيد قراره.قاض جزئي يوقف تنفيذ حكم لمجلس الدولة
ثم جاء حكم مجلس الدولة ببطلان توقيع الحكومة على اتفاقية دولية في العام الماضي، ليتابع مجلس الدولة مسيرته الوضاءة في صون الحقوق، وحق الأمة في إبرام معاهداتها الدولية هو أولى بصونه من حقوق الأشخاص التي كان المجلس يحميها على الدوام.فقد تفتق ذهن وعبقرية من تآمروا على مجلس الدولة بسبب هذا الحكم عن إشكال في تنفيذ الحكم رفعه أحد الأفراد ليستبق حكم المحكمة الإدارية العليا بمجلس الدولة في الطعن المقام أمامها على الحكم الصادر من محكمة القضاء الإداري في القضية السابقة، والذي كان محدداً للنطق به يوم 16 يناير الجاري، ليصدر حكم محكمة عابدين الجزئية من قاض فرد بوقف تنفيذ حكم مجلس الدولة ببطلان توقيع الحكومة على هذه الاتفاقية، ويصدر حكم محكمة عابدين بوقف تنفيذ حكم مجلس الدولة لمخالفته القانون، ويعلن أحد المرتزقة بصلف وكبرياء ودون أي استحياء وكأنه الخبير الدستوري والقانوني، الذي لا يشق له غبار في علمه بمسائل الدستور والقانون، ليعلن أننا أمام حكمين، أحدهما باختصاص مجلس الدولة برقابة مشروعية المعاهدات الدولية، والآخر بعدم اختصاص مجلس الدولة بذلك. وبذلك تصبح المحكمة الدستورية هي المختصة بالفصل في التنازع بين الحكمين.خطيئة دستورية وقانونية
ويا عجبي من زمن اختلطت فيه الأمور، فأصبح الجاهل عالما، وأصبح الحق ضائعا، فالحكم الصادر بوقف تنفيذ حكم مجلس الدولة، هو حكم معدوم، لأنه يخالف نصا صريحا في الدستور يقضي بأن مجلس الدولة جهة قضائية مستقلة يختص دون غيره بالفصل في منازعات التنفيذ المتعلقة بجميع أحكامه، والحكم صادر من قاض فرد جزئي يتبع محكمة جزئية تتبع القضاء العادي لا مجلس الدولة، هو عدوان على استقلال مجلس الدولة الذي كفله الدستور.وهو حكم معدوم، لأن القاضي أسسه على مسألة قانونية فصل فيها الحكم الصادر من مجلس الدولة- المرفوع إشكال في تنفيذه- وبذلك نصّب قاضٍ في محكمة جزئية نفسه محكمةً أعلى من مجلس الدولة، وما كان لإشكال في تنفيذ الحكم لو صدر من مجلس الدولة المختص وحده بنظره أن يوقف تنفيذه إلا لوقائع لاحقة على صدور الحكم محل الإشكال.التآمر على مجلس الدولة
ويبدأ التآمر على مجلس الدولة لإقصاء المستشار الذي كان يترأس دائرة محكمة القضاء الإداري التي أصدرت حكم مجلس الدولة سالف الذكر، والمشكّلة من خمسة مستشارين، وهو الحكم الذي أثار كل هذه الضجة، وهو المستشار يحيى الدكروري النائب الأول لرئيس مجلس الدولة من سدة رئاسة المجلس في يوليو القادم، عندما تقدم وكيل اللجنة التشريعية بمجلس النواب باقتراح بقانون لتعديل قوانين الهيئات القضائية، بحيث لا يلتزم رئيس الجمهورية بتعيين الأقدم في رئاسة كل هيئة منها.وتهلل وسائل الإعلام المقروءة والمرئية، لفضيحة مالية في مجلس الدولة لتلويث سمعة المجلس الذي تدوي أحكامه في سمع الزمن وتنطق بأشرف وأنزه قضاء منذ إنشائه، والتي أصبحت أحكامه راسخة في وجدان الشعب وضميره. أما بطل الفضيحة المالية فهو مدير مشتريات بمجلس الدولة قبض عليه في جريمة رشوة في مناقصة، أو أمر مباشر، ولكن القضية بفعل وسائل الإعلام ومجموعة مرتزقة تلويث سمعة المجلس، تأخذ شكلا دراميا، لتحقيق غرض هذه المجموعة، حيث يتم تصوير منجم من العملات الأجنبية والمصرية من يورو ودولار وريالات سعودية عند تفتيش الرقابة الإدارية لمنزله، وكأننا أمام مشهد من الفيلم العالمي علي بابا عندما دخل المنجم وصاح بأعلى صوته ذهب... ياقوت.... مرجان: أحمدك يا رب، وتطول القضية مستشاراً هو أمين عام مجلس الدولة، الذي رفعت عنه الحصانة القضائية، فور طلب النائب العام.وفات هذه المجموعة أن منصب أمين عام مجلس الدولة هو منصب إداري لا يمارس فيه المستشار شاغله إلا أعمالا إدارية، ولا يمارس أثناء شغله عملا قضائيا، ولهذا وقع المستشار الذي لا خبرة له بالأعمال الإدارية والمالية ضحية الشيطان مدير إدارة المشتريات، ودفع حياته ثمنا لجهله وتورطه في هذا الفساد المالي، وذلك لسبب آخر لم يتنبه إليه أحد، هو غياب الرقابة الدستورية على ميزانيات الهيئات القضائية وحساباتها الختامية، بسبب نص عجيب وخطير في دستور مصر يقرر إدراج ميزانيات الجهات والهيئات القضائية في الميزانية العامة للدولة رقما واحدا، للتصرف في أبواب الميزانية وبنودها بحرية كاملة، دون رقيب أو حسيب، بما يسلب أجهزة الرقابة المالية أدواتها، وأولها الرقابة على الحسابات الختامية لبحث مدى موافقتها للتقديرات المالية الواردة في الميزانية العامة للدولة، وكنت قد نبهت إلى خطورة مثل هذا النص قبل إقرار الدستور في لقاء السيد عمرو موسى بي، وكنت قد طلبت لقاءه، وكان وقتئذ رئيساً للجنة التأسيسية التي أقرته، وهو ما نبهت إليه أيضا على صفحات جريدة "الجريدة" الكويتية في أعدادها الصادرة في 21/ 10/ 2012 و22 و29/ 9 و6 و13 و20/ 10/ 2013 في قراءة متأنية للدستور ورقابة الميزانية والحسابات الختامية هي أقدم وأرقى وسائل الرقابة البرلمانية، وكان عنوان المقال الأخير هل يتصادم استقلال القضاء والرقابة البرلمانية على ميزانيته؟ وأجبت بالنفي في المقال، لأن استقلال القضاء هو استقلال القاضي على منصة الحكم وليس استقلالا برقم واحد لمصروفات كل هيئة قضائية في الميزانية العامة للدولة، ليتسنى لمدير المشتريات سالف الذكر وأمثاله الإفلات من أجهزة الرقابة البرلمانية وغيرها.