«حوارات الصمت» عنوان فلسفي، لماذا اخترته لمعرضك الأخير بغاليري بوشهري في الكويت؟ وهل للصمت حوار؟اخترت «حوار الصمت» عنواناً للمعرض لأنه يعبّر عما تحمله اللوحات من أسرار صامتة متكلمة. في اللوحات حوار بين النور والظل، واللون وغيابه، والكتلة والفراغ. بين ذلك كله كلوحة وبين المتلقي حوار يبدو صامتاً، لكنه قائم. استشعرت ذلك في عيون الجمهور سواء خلال العرض في مصر أو في المعرض الذي أقيم في «بوشهري» منذ أكثر من شهر، فللصمت حوارات متعددة، يسمعها من يتقنه، وله لغة بليغة عميقة تتجلى لمن ينصت، يسمعها البعض إيقاعاً، فيما تتجسد لآخرين عبارات. وبالنسبة إليّ أرى حروف اللوحات من نور وظلام وظلال، تراكيبها ملونة، ونحوها الأبيض والأسود، وبلاغتها ضربة الفرشاة.
عموماً، اعتقد أن حقيقة كل إنسان فينا تكمن في لحظات الصمت، حيث يعلو الحوار الحقيقي بين الإنسان ونفسه من جهة، وبينه وبين الآخر من جهة أخرى، ثم بينه وبين الكون. في لحظات الصمت، لا يكون الإنسان مضطراً إلى تجميل أو مراوغة، بل يكون وحده لا أحد سواه، ولا تشغله ظنون غيره عنه في تغيير ذاته. أحب تلك اللحظات الصامتة المحتشدة بانفعالات صادقة وأسرار مخفية أراها بوضوح الشمس. ثم إن الصمت فرصة جيدة لتأمل حكايات الآخرين، وإدراك أكبر للمسموع المعلن، والمخفي الكامن في الأداء والنبرة والانطباعات وحركات الجسد وغيرها. صمتك وسيلتك لتخليص لغة الآخر من الصخب لصالح الصدق.قدمت معرضاً بهذا العنوان العام الماضي بالقاهرة. لماذا تكرره في معرض جديد، وهل يعُد استكمالاً للتجربة في الإطار نفسه؟قدمت معرضاً في قاعة الباب بمتحف الفن الحديث بالاسم نفسه فعلاً، لكني لم أشعر بأن التجربة الخاصة بهذه المرحلة لديّ انتهت. أشعر بأن للصمت حوارات ما زال يديرها معي، وأنصت إليها تماماً، وألاحظ عمق أفكاره ودقة تفاصيله التي يقدمها لي شيئاً فشيئاً. كذلك أنا لست من هواة التلاعب بالأسماء لمجرد عمل معرض جديد خصوصاً إذا كانت اللوحات الجديدة استكمالاً للمرحلة نفسها. ثم إن تجربة العرض الأولى في مصر، كانت ناجحة جداً، شعرت معها برغبتي بالارتحال بها، وأقصد التجربة في بلاد أخرى، لأبين هل حوارات الصمت متغيرة في ذائقة المتلقي أم لا.
الذائقة والمرأة
هل وجدت الذائقة متغيرة في الكويت؟على العكس تماماً. وجدت الانطباعات نفسها التي قابلتها في القاهرة. طبعاً كل لوحة تبوح لكل متلقٍ بحوار خاص بها وبه هو دون غيره، لكن هذا الأمر لا يمنع حكماً عاماً أدعيه باطمئنان بأن اللوحات كانت بوّاحة جداً. ثمة لوحة المرأة الريفية التي تقف في الصدارة في خلفية بعيدة مرسومة كلها بتدرجات لونية. معظم من نظر إليها تكلم عن الشموخ الذي تعبّر عنه وضعية المرأة فيها، وعن نظرة التحدي لديها. اللوحة نفسها، وقفت أمامها في القاهرة امرأة لفترة طويلة، وعندما اقتربت منها قالت: {هذه اللوحة تحدثني، تحكي لي هذه المرأة كم الانكسار الذي تعانيه بألم شديد«. وفي الكويت تأملها رجل ثم سألني: {ما هذا الانكسار والألم في اللوحة؟«. هو متلقٍ يختلف عن المرأة في القاهرة في الجغرافية والمرجعية الثقافية والعمر، وثمة اتفاق كامل بينه وبينها في تأويل مدلول العمل الفني.تجلت الأنثى بوجهها كبطلة ل»حوارات الصمت«. لماذا؟بعيداً عن البلاغة اللغوية في كون الحياة أنثى والفكرة أنثى... أجد وجه المرأة أنسب قالب لتحميله المشاعر الإنسانية كافة بانتصاراتها وانكساراتها، على عكس ملامح وجه الرجل الذي لا يمكنه عادة التعبير عن الكثير من المشاعر، وإن استطاع فإنه يفتقد إلى جماليات فنية تتجلى في وجه المرأة. كذلك أرى تحدياً فنياً في التعبير عن صمت المرأة، فعادة يرى الناس أنها أقدر في التعبير اللغوي عن نفسها، وأن تلتقط أنت صوت صمتها وتقرأ حواراته غير المعلنة لهي مغامرة ممتعة.مدارس ومشهد
تنوعت لوحات المعرض بين البورتريه والتجريد والواقعية والتعبيرية. ما فلسفتك في هذا التنوع؟لم أقصد التنوع. أرسم لأستمتع وأتقوقع حول نفسي على طريقة أو تقنية بعينها. لكن كل لوحة أبدأها تفرض عليَّ أسلوب معالجتها. لا أدرك أثناء الرسم هل أتّبع أسلوباً تعبيرياً أو تجريدياً، بل أرسم ما أشعر به، وعلى النقاد والمتلقين التصنيف إن أرادوا، وإن كنت أرى أن التقنيات باتت متداخلة بشكل يصعب معه التصنيف السطحي البسيط. الفن عموماً من وجهة نظري يتخطى التصنيفات كافة.يحتل البسطاء والمهمشون دوراً كبيراً في لوحاتك، فهل تنتصر لهم بالريشة؟للحقيقة، أنتصر للإنسان بهيبته وجلاله ومشاعره والمعاش اليومي له. تجعلنا تجاربنا الحياتية كلنا في لحظة ما بشكل أو بآخر من زمرة المهمشين. ريشتي ببساطة تنتصر للصدق الإنساني، ثم أنني أت من عمق الريف المصري، حيث لم نكن نفهم معنى مهمش ولم ننشغل به، ولم نشعر بأننا مهمشون، وإن كنا أدركنا هذه الحقيقة في المدن بعد ذلك. عموماً، شخصيات لوحاتي الريفية التي تبدو فقيرة، هي غنية جداً في حقيقتها بما تملكه من عمق المشاعر.كيف كانت ردود الفعل حول المعرض في الكويت؟الحمد لله، كنت سعيداً جداً بردود الفعل الإيجابية على مستويي المتابعة العامة والمتابعة الصحافية. تشرفت بحضور نخبة من صفوة المجتمع الثقافي من فنانين وكتاب وصحافيين، وسعدت بحضور الفنانين المقيمين في الكويت من مصر، ولبنان، والعراق، وسورية، وفلسطين. والحقيقة أنني مدين بشكر عميق لقاعة {بوشهري«، بتنظيمها الرائع وإدارتها الذكية وطريقتها الرفيعة في العرض. فعلاً، بهرني ما لاقيته هناك من اهتمام بالتفاصيل.ما رؤيتك للمشهد التشكيلي الكويتي من خلال عرضك هناك؟لا يختلف المشهد التشكيلي الكويتي كثيراً عن مثيله المصري. وجدت فيه تفاعلات ثقافية كثيرة ويومية تقريباً، ولمست من خلال معايشتي القصيرة لأصدقائنا التشكيليين مدى حرص الفنانين الكويتيين على متابعة الجديد في العالم، ما يساعدهم على التجدّد الإبداعي. كذلك ثمة تجارب وأساليب تقنية على أعلى المستويات في الكويت، ولما كان المشهد طبيعياً فهو أيضاً يحمل بعض المشكلات كالأوساط التشكيلية كافة وأبرزها {الانقسام«. لكنه مشهد متميز وأدعو إلى ضرورة رعايته بتوفير فرص أكبر للعرض خارج حدود الدولة، والتواصل في ما بيننا، ما يتيح للمتلقي العربي التمتع بفنون فنانيه من الأقطار العربية المختلفة.صمت الشوارع
«حوارات الصمت» المعرض رقم 15 في مسيرة الفنان مجدي الكفراوي، ويضمّ مجموعة تعبّر عن الروح المصرية بتنويعاتها، قال عنها الناقد التشكيلي الدكتور أحمد عبد الغني: «تحمل اللوحات حساً تعبيرياً وفنياً متميزاً، ورغم تنوع مواضيعها الفنية، نلاحظ طغيان عالم المرأة أو المواضيع المرتبطة به، واستطاع الفنان من خلال لغة الوجه تقديم معالجات فنية ولونية أظهرت دراية واسعة وعمقاً في الفهم حمل رؤية وفلسفة الفنان الخاصة تجاه هذا العالم المتفرد والحياة عموماً». ويذكر الكفراوي: «علاقتي بالصمت بدأت منذ الطفولة، وتعمقت فيه حتى صار يشير إلى ذاته في الوجوه التي تجاورني في الحياة. حتى عندما كان الصخب يملأ الشوارع من حولي، صارت الوجوه دفاتر تروي حيوات وتجارب، وكائنات الصمت تسرح في خلفيات المشاهد كافة».تخرج مجدي الكفراوي في كلية التربية عام 1995، وهو عضو نقابة التشكيليين والصحافيين، وعضو أتيليه القاهرة وجماعة محبي الفنون الجميلة، كذلك لجنة التحكيم بمنظمة الصحة العالمية.أقام معارض تشكيلية خاصة عدة، وشارك في أكثر من مئتي معرض جماعي.