بعد انتخابه عضواً في الأكاديمية الفرنسية في 2011، كان على أمين معلوف إلقاء خطاب في حفلة استقباله في الأكاديمية يحيي فيه سلفه كلود-ليفي شتراوس، عالم الأنثروبولوجيا الشهير وصاحب كتاب «مدارات حزينة». لهذه الغاية زار منزله والتقى أرملته التي فتحت أمام معلوف مكتبة شتراوس ليستقي منها مادة لخطابه، وخلال اطلاعه على مخطوطات عدة في المكتبة اكتشف معلومات عن الشخصيات التي احتلت مقعد شتراوس على مدى أربعة قرون، فقرر معلوف ألا يكتفي بكتابة سيرة شتراوس، بل أن يجري بحثاً حول المفكرين الذي احتلوا هذا الكرسي قبله، وهكذا ولدت فكرة كتاب «كرسيّ على السين-أربعة قرون من تاريخ فرنسا» الصادر في أواخر عام 2016 عن دار «غراسيه» الفرنسيّة، وترجم من ثم إلى العربية.

يتناول معلوف في كتابه سيرة ثماني عشرة شخصية تعاقبت على المقعد التاسع والعشرين في الأكاديمية الفرنسية، يستهلها مع بيار باردان، الذي غرق في نهر السين في مايو 1635، ولم يمضِ أكثر من 14 شهراً على قبوله في النواة الأولى للأكاديمية. اللافت أن كتابه «الأسلوب الفلسفي» أحد أهمّ الكتب التي ألفها، دعا فيه إلى تبسيط الفلسفة حتى تكون فائدتها أوسع وأشمل، مع ذلك لم يعد يذكره أحد.

Ad

ومن الشخصيات أيضاً فيليب كوينو الذي كان من عائلة متواضعة مع ذلك انتخب عضوا في الأكاديمية، عام 1670، وتقرّب من الملك لويس الرابع عشر. بعد وفاته في 26 نوفمبر 1688، جاء فرنسوا دو كاليار الذي لم ينل شهرة واسعة، خصوصاً في الأوساط السياسة والدبلوماسية، إلا بعد الحرب الكونية الثانية، أي بعد قرنين من رحيله، ويعود الفضل في ذلك، بحسب معلوف، إلى كتابه «عن الطريقة في التفاوض مع الملوك» الذي لا يقل قيمة عن كتاب «الأمير» لميكيافيلي. وقد أعجب رجال السياسة بهذا الكتاب، وترجم إلى اللغتين الإنكليزية والألمانية، وبات مرجعا أساسياً.

كان كلود برنار أحد أشهر أعضاء الأكاديمية الفرنسية في القرن التاسع عشر. وكان عالماً في الطب، وعلى اطلاع واسع على الآداب والفنون. كذلك الكاتب هنري دو مونتارلان الذي كان أحد أشهر الكتاب الفرنسيين في القرن العشرين، وفي خطاب ألقاه يوم الاحتفاء به عضواً في الأكاديمية، رفض الحديث عن سلفه من الأدباء مثلما اعتاد أن يفعل الآخرون، مفضلاً الحديث عن الأحياء، أولئك الذين يراهم ويسمعهم، ويرونه ويسمعونه.

وفي نهاية كتابه، يشير أمين معلوف إلى أن كلود-ليفي شتراوس ظل يدافع عن نظريته بأنه لا يحق لأي كان أن يعتبر حضارته أرقى من الحضارات الأخرى، وأن الإنسانية ليست في حاجة إلى ثقافة واحدة، بل إلى عدة ثقافات تعكس تنوع الشعوب، وقدرتها على الابتكار.

مصير أسود

قضى أول شخص شغل هذا المقعد غرقاً في نهر السين، وانتحر مونترلان في شقته المطلة على السين، ومقرُّ الأكاديمية نفسها، بين اللوفر ورصيف كونتي: إنها وحدة مكان يتجلَّى التاريخ انطلاقاً منها بمراحله المتعاقبة. وفي السنوات الأخيرة من حياته، اعتلت صحته، وبات شبحا لما كان عليه سابقاً. لذا فضل الانتحار في 21 سبتمبر 1972 مطلقاً رصاصة في حنجرته.

بدوره انعزل المفكر والمؤرخ أرنست رينان في جبال لبنان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ليؤلف كتابه الشهير عن حياة المسيح.

وفي معرض حديثه يذكر معلوف أن الكاردينال ريشليو الذي كان يحظى بمكانة مرموقة لدى ملك فرنسا لويس الثالث عشر، عارض دخول المؤلف المسرحي الشهير كورناي إلى الأكاديمية من دون أن يعلن عن سبب ذلك.

نبذة

أمين معلوف كاتب لبناني من مواليد العام 1949، يقيم في باريس منذ 1975، صدرت له باللغة الفرنسية روايات عدة نال بعضها جوائز أدبية رفيعة، ونُقلت جميعها إلى ما يزيد على 30 لغة عالمية. وشكلت هذه الروايات عند صدورها حدثاً أدبياً وثقافياً لا لمتعتها التي تعيد إلى الذاكرة قصص «ألف ليلة وليلة» ليست تلك التي كتبها أسلاف أمين معلوف؛ بل لأنها نقلت إلى الغرب، ومباشرة عبر لغة من لغاته، وجهة نظر الشرق، أسهمت الغربة وبعد المزار، كذلك الحروب القديمة والحديثة التي نشأت بينهما، في إحداث فرقة أدت مع الوقت إلى جهل أحدهما للآخر وانطوائه على وجهات نظر عن هذا الآخر ليست دائماً صحيحة أو دقيقة.

من أشهر أعماله: «الحروب الصليبية كما رآها العرب»، و«ليون الإفريقي»، و«سمرقند»، و«حدائق النور»، و«صخرة أنطونيوس»، و«اختلال العالم»، وسواها من أعمال أضافت إلى المتعة والفائدة صفة أخرى، وهي أنها ألفت فصلاً جديداً في الحوار بين الشرق والغرب، وهو حوار قديم وحديث ومتجدد باستمرار.