قليلةُ العدد أيامُنا وها تعبر سراعاً
أتصفح بين يدي كتاب المفكر الإيراني مهدي أمين رضوي عن الخيام (منشورات أُكسفورد)، وقد سبق أن عرضتُ له، وأتأمل: في العربية قد أقع على كتاب يشبه هذا عن شاعر واحد في العربية لا غير، هو أبوالعلاء. في حين تهرس الشعرَ ونقادَه مطحنةُ البلاغة وأغراضُ المديح والهجاء. في الشعر الشرقي لا ينفرد الخيام بهذه الفضيلة، بل يشاركه معظم شعراء إيران، الهند والصين.شغل الخيام النفس بحوار متواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل، فيما الأرض والطين تزودانه برموز قوية "كالإبريق" و"الخزاف" تلمّح كلها إلى عدم الثبات في الحياة. الخزاف يمثل في بعض الأحيان عملية الخلق. في حين يمثل الإبريق البشر...الماضي، الحاضر والمستقبل تبلغ نهايتها لحظة الموت، حيث كل الهموم والمخاوف والآمال تتلاشى في اللاشيء.
إن تركيز الخيام على هذه النقطة بالذات، هو الذي قاد إلى التفسيرات النهلستية لوجهات نظره، بالإضافة إلى اعتباره نصيراً لمبدأ المتعة ولنزعة اليأس. قد يصح أن واحدة من هذه التأويلات لمفهوم الخيام حول عدم ثبات الحياة تقود إلى العدمية، لكن الفهم الأصح إنما يعود جذره إلى الآيتين القرآنيتين، "كلُّ من عليها فان، ويبقى وجه ربك.." و"إنا لله وإنا إليه راجعون"، اللتين تشيران إلى زوال حياة كل شيء.الكاتب يؤكد أن رؤية الخيام في زوال الحياة والعالم إنما هي تعزيز حقيقة الكائن الباقي، وهو الله. لكن أحدنا قد يعترض، إذ يرى أن هذا التفسير يؤكد الفهم الإيماني للرباعيات، بأن الخيام يحاول أن يحرف نباهة القارئ عما هو غير مستقر وزائل إلى ما هو ثابت ودائم. ما هو مهم في الحياة، بالإضافة إلى الله، هو الحب والمسرة. فكرة "اقبض على اللحظة"، و"لنغتنم الفرصة ونحتفي بالحياة عالياً": قليلة العدد أيامُنا، وها تعبر سراعاًمثل ماء جدول وريح في وادٍ؛ يومان لم أُلاحَق بحزنهما أبداً اليوم الذي لم يأتِ والآخر الذي مضى. إن خبرةَ "الهُنا والآن"، وهي نتاج طبيعي لفكرة سرعة زوال الحياة في إشارة الرباعية أعلاه، ربما تقود أحدنا إلى أن يستنتج بأننا يجب أن "نعيشها كلها" أو "نتخلى عنها كلها". الخيام لا يدعو إلى مذهب المتعة، لكنه بدلاً من ذلك يدعو إلى التخلي عن العالم، فمن يستطيع أن يأخذ الأحداث في الحياة مأخذاً جدياً على ضوء طبيعتها المتسارعة؟ إن وصفة "عشها كلها" ليست الوصفة التي يلاحقها الخيام. من الضروري الغوص عميقاً في الفكرة الخيامية المتعارضة "عش يومك/ تخلَّ عنه" إذا ما أردنا تقريب معنى لهذا التناقض. دعنا نفترض بأن الخيام كان على قناعة بانعدام أي معنى للحياة وغياب أي إضاءة فيها، أو هدف. ما الذي يستطيع شخص عقلاني أن يستنتج حينما يفشل في حل ألغاز الحياة الوجودية ويعطيها معنى وافياً؟ حتى أولئك الذين يظنون أنهم أتقنوا اللعبة، سيدركون فشلهم في آخر المطاف:أما رغبةُ المعرفة، فلا أستطيع هجرَهابضعة أسرار بقيت لا معرفة لي بهافكرت لاثنتين وسبعين سنة، ليلاً ونهاراًحتى أتضح أن لا شيء يمكن قوله. حتى لو أصبح أحدنا أستاذاً في لعبة شطرنج الوجود، فسيُهزم هو أيضاً أمام سرعة الزوال:حين كنتُ طفلاً، كنتُ على براعة مشهودة وعن وعي أصبحتُ بها فرحاً،استمعْ إلى حكايتي وما حلّ في الخاتمة:مثل سحابةٍ جئتُ ومثل ريح ذهبتُ.حالُ الإنسان غارقة في الجهل، في المعاناة، ووسط هذا المزاج الغريب، فإن التكهن في القضايا الميتافيزيقة ليس سوى محاولة سطحية للتعامل مع القلق بشأن سرعة زوال الحياة التي نعيشها. إن رسالة عمر الخيام واضحة، قاومْ ما استطعت الإغواءَ، وتجنّبْ محاولةَ إعطاء معنى لكل ذلك. حينها فقط يمكن لك أن تحرر نفسك من وسوسة الإغواء المتعالي (المافوق طبيعي) الذي يفسر حقيقة وجودنا. حينها فقط يتسنى لك أن تعيش في "الهُنا والآن".