يتابع العمري حديثه عن مسألة السفور في العراق: "في البلاط الملكي لم يكن موقف الملك فيصل من قضية سفور المرأة واضحا، فهو تارة يبدي تفهما لها ويساندها، وطورا آخر يتراجع عندما يجد الرأي العام ناقما ساخطا، فالواقع أن الدعوة إلى سفور المرأة ذلك الوقت لم تجد تقبلا في الأوساط الشعبية". ولعل سر هذا التقدم والتراجع، في رأي الباحث، يرجع على عوامل شتى، منها تأثره ببعض المقربين إليه ومدى إيمانهم بحرية المرأة، حيث كان في العائلة المالكة من يعارضها، ويدفع الملك فيصل للوقوف بوجه دعاة السفور، في حين كان مستشاره "رستم حيدر" و"ساطع الحصري" يشجعانه، كما أدت التطورات السياسية داخل العراق وتصارع السلطة مع بعض الأحزاب دورا في مصير القضية، وتذبذبت حول دعم مسألة السفور "دار الاعتماد"، أي بريطانيا، فمن جانب كانت تتبع سياستها المعروفة في عدم التعرض إلى ما يمس التقاليد والمعتقدات السائدة في البلدان المرتبطة بها. وكان العامل المؤثر الآخر موقفها السياسي من تركيا بعدم قيام مصطفى كمال بحركته، وقد شجعت تعليم البنات وبعض النواحي الأخرى، غير أن التشجيع في رأي العمري، كان محدودا.
بل إن وكيل المعتمد السامي البريطاني في خطبة له انتقد سياسة أتاتورك الذي توهم أن تركيا "في استطاعتها استعجال تقدم شعبها بإرغامه على أن يتخذ، ولو بكثير من التردد، ما تتصور أنه الدلائل الخارجية الظاهرة لتقدمه. إن علامات التقدم يتحتم أن تعقب التقدم لا أن تتقدمه، ولا يصح أن ننصح لأحدهم أن أفضل السبل للإثراء هو أن يلبس جبة من الفرو ويركب سيارة من طراز رولس رايس".وينتقد الأستاذ العمري الأحزاب العراقية التي ظهرت على مسرح السياسة، وأدت دورا في توجيه الرأي العام كحزب التقدم برئاسة السعدون، وحزب الأمة برئاسة الشيخ أحمد الداود، وحزب الشعب برئاسة ياسين الهاشمي وغيرها، فهذه الأحزاب، رغم أنها طالبت بالحريات الدستورية وتعديل المعاهدات والاتفاقات، فإنها وقفت من التطورات الاجتماعية موقفا سلبيا، "فتجاهلت حرية المرأة والدعوة إلى سفورها ومنحها حقوقها السياسية، فلم تدرج في مناهجها ما يشير إلى ذلك صراحة أو ضمنا، رغم أن هذه الدعوة برزت كمشكلة اجتماعية في تلك الأيام في تركيا وإيران ومصر".تعتبر الباحثة "إنعام كجه جي" ثورة 1920 بداية الظهور سياسي للمرأة العراقية، ولو على هامش المعارك والأحداث، كما تقول. فقد "كانت تتبع المجاهدين تحمل أمتعتهم وتأتيهم بالزاد والمال، تستنفرهم للهجوم مستلهمة تراثا عربيا عريقا في إثارة النخوة في النفوس بالزعاريد و"الهوسات"، وهي الأهازيج التي تقال مع رفع العباءة باليد والتلويح بها فوق الرأس".ومن الأمثلة التي توردها اشتباك قرب مدينة الديوانية "كان الثوار على وشك الهزيمة، حين ظهرت امرأة فحسرت الغطاء عن رأسها ثم تقدمت إلى أمام وبيدها فأس تلوح بها، فدبت الحماسة في نفوس الثوار، وقد أصيبت المرأة أثناء ذلك بقذيفة قضت عليها".كما تشكلت في بغداد لجنة تضم فريقاً من السيدات لدعم الثورة عن طريق جمع المال لإمداد المجاهدين ونصرتهم، وفي الوقت ذاته تضيف الباحثة، كانت عضوات اللجنة وغالبيتهن من زوجات السياسيين والزعماء المعروفين، يجمعن النساء من البيوت، ويشرحن لهن ما يتطلبه منهن الواجب الوطني، "ولبت النساء الميسورات نداء الثورة وتبرعن بسخاء من أموالهن وحليهن، وهن يذقن للمرة الأولى دفقة الحماسة، ولذة الاهتمام بقضية كبرى، ورهبة التصدي لأعداء الوطن".ولكن التقاليد كانت تضغط على غالبية النساء وتعوق حركتهن الاجتماعية، وتصف د. نزيهة الدليمي، أول عراقية وعربية تشغل كرسي الوزارة في تاريخنا الحديث، واقع المرأة آنذاك في عبارة حادة بقولها: "كانت المرأة في المجتمع الفلاحي آلة للإنتاج قابلة للبيع والشراء، ولا يقتصر إنتاجها على الأطفال فحسب، بل يتعداه إلى العمل لحساب مالكها (الزوج)، ولهذا المالك حق إتلاف هذه الآلة في حالة عدم صلاحيتها للاستعمال، أو استبدال أخرى بها (طلاقها والزواج بغيرها) أو الحصول على أخريات مثلها في آن واحد (تعدد الزوجات) إن ساعدته ثروته على ذلك، ولم يكن وضع المرأة في الوسط الإقطاعي، أو في المدن، بأفضل من وضعها في الريف مع فارق البحبوحة في المعيشة".ومن أشكال إهدار حقوق الإناث، ما يرويه الطبيب البريطاني هاري سندرسن الذي وصل العراق عام 1918 ومكث فيه أكثر من ربع قرن طبيباً للعائلة المالكة، فهو يقول مثلا إن وباء الجدري انتشر في بغداد صيف 1921، وكان الأهالي في المناطق الفقيرة يخفون أبناءهم الذكور عن أعين موظفي الصحة لئلا ينقلوهم إلى مستشفى العزل، أما الفتيات فلم يأبه لهن أحد، وكان مصيرهن "بيد الله" على حد قول آبائهن، وإذا لم يكتب لهن الشفاء فلا داعي للبكاء، ونظراً لعدم وجود طبيبات بين موظفي الصحة، فقد كانت الشابات المسلمات يعفين من الفحص.ومن النساء اللواتي يرتبط ذكرهن ببدايات الوعي النسائي في العراق السيدة البريطانية مس غيرترود بيلBELL (1868-1926) الرحالة الشهيرة في بلاد العرب، والسكرتيرة الشرقية للمندوب السامي البريطاني.فعندما قامت السلطات البريطانية بنفي بعض الزعماء الوطنيين إلى مكان مجهول، قدمت مجموعة من النساء المنتميات إلى أسر معروفة مذكرة إلى مس غيرترود بيل، كانت بمثابة أول حركة احتجاج تجاهر به المرأة.وتقول الباحثة إن مس بيل كانت ذات يد طولى في توجيه دفة السياسة داخل العراق، حتى إن المعجبين بها أطلقوا عليها لقب "ملكة العراق غير المتوجة"، أما خصوم السياسة البريطانية والساخرون من المرتبطين بالإنكليز والمؤتمرين بأمرها فقد سموها مجازاً "أم المؤمنين" لحدبها على أولئك وفتح أبواب بيتها لهم في أي وقت.وقد تركت مس بيل بعد وفاتها مجموعة كبيرة من الرسائل تصف فيها تفاصيل الوضع السياسي في العراق آنذاك. وفي الرسائل، التي نشرت فيما بعد، أضواء على أوضاع نساء المدن، لا سيما بغداد، حيث كانت تدعوهن إلى زيارتها وتحرص على التعرف إلى البارزات منهن وتستمع إلى آرائهن.وبسبب هذه العلاقة، تقدمت النساء بمذكرتهن الاحتجاجية إلى مس بيل، بسبب رفض السلطات البريطانية الإعلان عن المكان الذي نقلت إليه السياسيين العراقيين الذين جرى اعتقالهم من بيوتهم، ثم تقدمن بكتاب آخر صيغ بلهجة عنيفة، وبعد بضعة أيام قطفت النساء ثمرة أول تحرك سياسي لهن، إذ أعلن الإنكليز أنهم نقلوا المعتقلين إلى جزيرة هنجام (إيران). وشاركت المرأة العراقية في المظاهرات السياسية كذلك، وقد نزلت إلى الشارع عام 1920 لتشارك في تظاهرة عفوية سارت في شوارع بغداد إثر مقتل مواطن دهسته سيارة الحاكم العسكري البريطاني، غير أن النساء سرن وراء الموكب وهن يتدثرن بالعباءات السود ويسترن وجوههن بالحجب الثقيلة.
مقالات
بدايات النهضة النسوية في العراق (2-3)
26-01-2017