بم تنفرد معلقةُ لبيد؟

نشر في 29-01-2017
آخر تحديث 29-01-2017 | 00:00
 فوزي كريم مجملُ الهواجس والخواطر التي تَشغل الفكر تُقبل على رأسي من الماضي. تنتشر تباعاً في الزمن الثقيل الذي يسبق النوم. قد تتزاحم فتسبب أرقاً. قبل يومين علِقت واحدةٌ وكان الأرق الذي سببته ممتعاً. واحدة تتصل بمعلقة لبيد بن ربيعة، وكانت مثار دهشتي حقاً: القصيدة التي لا تشغلها "أنا" الشاعر، لا بين المعلقات السبع أو العشر، ولا بين الشعر الجاهلي، بل وسط الشعر العربي القديم جملة. ألا تبدو هذه انتباهة مدهشة؟

لقد أحببت معلقة لبيد، من بين المعلقات جميعاً، منذ فترة مبكرة من حياتي الفكرية. كنت في السنة الثانية، كلية الآداب، حين سجلت هذا الإعجاب في دراسة نشرتها بمجلة "الأقلام" العراقية عام 1967، تحت عنوان "معلقة لبيد: ملاحظات في التجربة الفنية". هذه "التجربة الفنية" كانت تعني مدى أوسع من مدركاتي آنذاك. لعلها كانت تعني هذا الغياب التام لشخص الشاعر، لذات الشاعر التي تميز القصيدة الغنائية. لقد جاءت خاطرتي ليلاً لتوضح ذلك. رغم أن القصيدة في جزئها الأخير تُبرز "أنا" الشاعر في فخر لا يعدو اللازمة التقليدية التي يمكن الاستغناء عنها بيسر. لكن القصيدة في 52 بيتا تتسع لبانوراما بصرية بالغة الحساسية، لا تهدأ فيها الدراما الباعثة على الحياة لحظة، في غياب تام "للذات" وحضور تام "للموضوع".

إن المشاعر التي تبعثها الدراما لا تمت لشخص الشاعر بصلة، بل هي وليدة دراما الحياة "الموضوعية" المُجسدة في الطبيعة والحيوان. وهنا شعرتُ بأن ما عزز عودةَ الخاطرة لديّ، هو معرفتي بموقف نقدي اشتهر به الشاعر الإنكليزي تي أس أليوت حول حيادية الشاعر الحديث Impersonality في نصه الشعري، وضرورة تلاشي صوته الشخصي. وعلى الناقد أن يتعرف على المشاعر من النص الشعري ذاته، لا من سيرة الشاعر. ولقد تمثّلت ذلك حقاً في هذه القصيدة التي تنفرد دون غيرها بهذه الصفة. ولعل ذلك ما أسرني في شبابي الأول، وسميته "التجربة الفنية"، غافلاً موقف أليوت النقدي.

على أني في دراستي الفنية المبكرة تلك لم أُهمل غياب لبيد كـ "ذات"، وانصراف النص إلى الطبيعة كـ "موضوع". فقد قارنتُ تجربته التي سميتها "فنية"، والأحرى أن أسميها "حيادية" أو "موضوعية"، بتجارب الشعراء البقية في معلقاتهم، والتي سميتها "حياتية"، والأحرى أن أسميها "ذاتية" أو "شخصية". فنحن إذا ما قرأنا معلقة امرؤ القيس نكاد نستحضر شخصه بتمامه، بملامحه الشابة اللعوب، وهيئته المترفة. الأمر لا يختلف مع زهير الحكيم الوقور، ولا مع طرفة الفتى الطليق، أو عنترة العاشق الفارس، أو عمرو بن كلثوم الذي ينتصب فخوراً كراية قبيلة... الخ. إن أصواتهم الشخصية ماثلة في قصائدهم. ولكن الذي تستحضره من معلقة لبيد، هو دراما بصرية لا تكف عن الحياة، لا تقل فيها الطبيعة فاعليةً عن دراما امرؤ القيس في مغامراته الشخصية. لكن دراستي، آنذاك، لم تستغرقها كفاية هذه الخاصية الفريدة، بل انصرفت إلى خاصية أخرى لا تقل فرادة، وجدتها في حساسية الشاعر الكبير في التعامل مع لغته الشعرية، ومع رصده البصري.

مازلت أنكر الرأي النقدي الذي يجد هذه القصيدة "مستعصية مليئة بالغريب". فلعلي، بشأن اللغة، أجد شكسبير لا يقلّ استعصاءً، وبيني وبينه قرابة 500 عام. فكيف لا أتفهم استعصاء شاعر بيني وبينه قرابة 1400 عام؟ ثم اني أُنكر أكثر الذي يجدها مليئة "بالوحشي"، لأن موسيقى لغتها تسيل على اللسان ذي الدُربة بعذوبة. إنني أحفظ الكثير من مقاطعها، لا لموسيقى لغتها فحسب، بل لاكتناز المفردة فيها بالمعنى الذي يحتاج إلى جملة. وما أعمق فهمي لذائقة الشاعر الفرزدق في هذا الخبر الذي ورد عنه في كتاب "الأغاني":

كان "الفرزدق يمر بمسجد أقيصر وعليه رجلٌ ينشد قول لبيد:

وجلا السيولُ عن الطلولِ كأنها زُبرٌ تُجدُّ متونَها أقلامُها

فسجد الفرزدقُ فقيل له: ما هذا يا أبا فراس؟ فقال: أنتم تعرفون سجدةَ القرآن، وأنا أعرف سجدةَ الشعر".

back to top