لماذا تفرز جامعاتنا إرهابيين؟

نشر في 29-01-2017
آخر تحديث 29-01-2017 | 00:12
 ياسر عبد العزيز هل تساعد جامعاتنا العربية على إفراز متطرفين وإرهابيين؟

يبدو أن الإجابة: نعم.

إضافة إلى ذلك؛ ثمة دراسات عديدة أشارت إلى أن عدداً كبيراً من قادة الجماعات الإرهابية من خريجي الكليات العملية، دون أن يعني هذا أن كلياتنا النظرية تمارس دورها التعليمي بطريقة سليمة ومتوافقة مع المعايير الدولية المتبعة في هذا الصدد. إذا توافقنا على أن كلياتنا العملية تغذي الميول إلى التطرف والإرهاب، فعلينا أن نبحث عن الأسباب التي تؤدي إلى ذلك. من بين أهم الأسباب التي تقود بعض خريجي الكليات العملية العربية إلى التطرف أن تلك الكليات تقصر جهودها العلمية على النواحي التطبيقية، من دون أن تُعنى بتزويد طلابها بما يغذي الوجدان، عبر دراسة المنطق، والفلسفة، والفنون، والآداب. إن التشخيص مسألة حيوية وخطوة لا غنى عنها لمواجهة أي ظاهرة سلبية أو خلل يعتري أداءنا العام، لكن التشخيص وحده لا يمكن أن يكون كافياً لصناعة الحل المناسب؛ وهو أمر يدعونا جميعاً إلى التفكير في خطوات عملية ملموسة، يمكن أن تحد من تلك النزعة المتنامية للتطرف في بيئاتنا التعليمية، وخصوصاً مرحلة التعليم الجامعي. من جانبي، سيمكنني أن أعرض تصوراً، أرجو أن يكون صالحاً للبناء عليه لتحقيق هذا الهدف، وهو تصور مستمد من خبرات وآليات عمل مستقرة في بيئات تعليمية أكثر رشداً وتنظيماً.

بعد نحو 15 عاماً أمضيتها في تدريب المهنيين وتعليم الجامعيين والمتخرجين حديثاً، في 16 دولة، معظمها من تلك الدول التي تفرز إرهابيين ومتطرفين، أمكنني أن أرصد عوامل محددة، بمقدورها أن تحد من النزوع إلى التطرف في البيئات التعليمية، على النحو التالي:

أولاً: التعليم المتكامل في مقابل تركيز التخصص

في معظم الجامعات الغربية، لا يكون بمقدور الطالب الجامعي أن يتخرج من دون أن يمر بحزمة من الدراسات التي تؤهله لنيل الشهادة الجامعية. إن هذه الحزمة ليست كتلك التي يمر بها المتخرجون في جامعاتنا النظرية والعملية. وببساطة شديدة؛ فإن الطالب الذي يدرس الهندسة أو الطب أو الكيمياء في جامعة تتبع منهجاً رشيداً، مطالب بأن يدرس ثلاث حزم من المواد؛ الحزمة الأولى تُسمى بالمواد الأساسية Core، أي تلك التي لا يمكن التخرج في الجامعة من دون إتمامها؛ وفيها اللغة، والبحث العلمي، والتفكير العلمي، والتفكير الفلسفي، والدراسات الأدبية، والدراسات العالمية، ومدخل إلى العلوم الإنسانية، وعلوم المعمل Lab، والتاريخ، والثقافة (مسرح، أدب، شعر، فنون، ...). أما الحزمة الثانية، فتركز على مواد التخصص Major؛ فإذا كان هذا الطالب يدرس الطب مثلاً، فستكون تلك الحزمة مخصصة فقط للعلوم الطبية، التي ستؤهله لكي يكون طبيباً. وتُسمى مواد الحزمة الثالثة بـ"المواد الاختيارية" Electives، وهي مواد يُترك للطالب الحق في اختيارها؛ إما لكي تمكنه من امتلاك تخصص ثانوي Minor، كأن يكون محامياً في تخصصه الرئيس، ومختصاً بالنزاعات الدولية في تخصصه الفرعي، أو أن يكون مهندس بترول في تخصصه الأصلي، ومختصاً بإدارة المشروعات في تخصصه الفرعي.

من خلال هذا النظام، تضمن هذه الجامعات أن يكون المتخرج فيها قد حصل على تعليم وتأهيل متكاملين، بحيث يتقن تخصصاً رئيساً في أي مجال من المجالات العلمية على سبيل المثال، لكنه في الوقت نفسه يعرف أسس التفكير العلمي، ويفهم نسبية العلوم، ويتمتع بوجدان ثري وأكثر استقامة، وإدراك معقول لمكانة الآداب والفنون في الفكر الإنساني.

ثانياً: النقاش العام

توفر تلك الجامعات منصات فعالة ومستديمة، لصناعة نقاش عام مسؤول وموضوعي حول قضايا التعليم وآلياته، وسبل تطويره، واكتشاف القصور، والعمل على معالجته، وهو نقاش يعمل لاحقاً كجرس إنذار عندما تنحرف مقاصد العملية التعليمية، أو تتصاعد شكاوى الطلاب، وأولياء أمورهم، من أي خلل أو قصور.

ثالثاً: التدريب العملي

سواء كانت الكلية نظرية أو عملية، لا يمكن للطالب أن يتم استحقاقات تخرجه فيها من دون أن ينخرط في أنشطة عملية تخصصية متكررة. ستوفر الكليات لمنسوبيها فرص التدريب العملي في كل الأحوال، وسيعتبر هذا التدريب جزءاً حيوياً من العملية التعليمية، لا تتم من دونه، وهو تدريب سيمكن الطالب من العمل بالفعل فور تخرجه، بعدما يجسر الفجوة بين التعليم الجامعي وسوق العمل.

رابعاً: الاختيار

وكما تمنح تلك النظم التعليمية الطلاب الفرصة لاختيار التخصصات التي يريدون دراستها، بما يشمله هذا من المواد المتضمنة في كل تخصص، فإن لديهم الفرصة أيضاً في اختيار أساتذتهم. وسيلجأ الطلاب عادة إلى منصات النقاش العام السابق ذكرها، للتعرف إلى الفروق النوعية بين الأساتذة، ومراجعة آراء الطلاب السابقين فيهم، وستكون اختياراتهم أكثر رشداً، بعد امتلاكهم معلومات تفصيلية عن طريقة كل أستاذ وأسلوبه ونقاط قوته وضعفه، كما يظهرها النقاش العام المتراكم حوله.

خامساً: النصح الأكاديمي

لا تكتفي تلك الجامعات بما توفره لطلابها من معلومات مكتوبة وقواعد تنظيمية شفافة ومعلنة، لكنها أيضاً ستوفر آليات نصح أكاديمي مستديمة لهم، عبر متخصصين يمكن لأي طالب أن يلجأ إليهم لحل مشكلاته مع المواد التي يدرسها، أو مساعدته على اتخاذ القرارات الأصوب، ومن ذلك مساعدته أحياناً على تغيير تخصصه في منتصف الطريق، إذا ثبت له أن ذلك أكثر تناسباً مع حالته العلمية وأهدافه العملية.

سادساً: المناهج الذكية في تلك العملية التعليمية الرشيدة لا تجد أي آليات حفظ أو تلقين، وإنما هناك عروض متكاملة، تركز على فكرة نسبية العلم، والعرض المتناظر للإفادات المنهجية. في تلك النظم، يصعب جداً طرح أسئلة "الصح والخطأ"، وفي مقابلها تُطرح الأسئلة التي تقيس قدرة الطالب على مقاربة المسائل العلمية بروح منفتحة، قائمة على فكرة عرض الحجج المتباينة، وإيراد الإثباتات العلمية عليها، وصولاً إلى الاستبعاد أو الترجيح، المستندين إلى أدلة، وباستخدام النماذج والأمثلة. من خلال تلك النظم التعليمية والتأهيلية سيصعب جداً أن يفرز تعليمنا الجامعي إرهابيين أو متطرفين، وهو أمر يحتاج لكي نبلغه إلى إرادة وموارد وتنظيم، يجب أن نسعى إلى توفيرها جميعاً الآن لا غداً.

* كاتب مصري

back to top