لجان للفضائل... مرحباً بالهمجية الجديدة!
إن فكرة تأسيس لجان أو أجهزة لتقويم الفكر والتفكير هي خارجة عن إطار العصر، وتترك في الحلق مذاقا مراً، فالتجربة البشرية في طورها المتقدم إنسانيا وضعت رهانها على صنع وشيجة بين التعليم والفضيلة، وهذه الفكرة تنطوي على عناصر في غاية الأهمية.وعلى الرغم من أن هذه الفكرة ليست حديثة وتضرب جذورها في الفكر القديم فإنها برهنت على فاعلية كبيرة في الفضاءات الاجتماعية والثقافية والسياسية، فهي بين التجارب الإنسانية في هندسة الحياة المجتمعية المتقدمة، كانت الأكثر طرقا والأعمق صدقا. ويقال بواقعية لا تنقصها الوجاهة، إنها تعزز القيم والفضائل الإنسانية، وفي المدى الأعمق والأبعد أثرا تجعلها قادرة على فهم رغبات واحتياجات ومصالح الآخر على نحو أفضل، ما يتأتى عنه التعامل معهم باحترام وتعاطف مهما كانت خياراتهم وتوجهاتهم الاجتماعية. وحينما يكون التعاطف والاحترام متبادلين فإن الهوة الاجتماعية التي غالبا ما ينبثق منها الشقاق والتناحر تضيق شيئا فشيئا.
ثمة مخاطر ومجازفات في اعتناق التعليم الحر، إلا أن تبني مناهج وطرائق التعليم الحر يقود إلى فضائل جوهرية لا غنى للإنسان المعاصر عنها؛ في مقدمها الحرية الشخصية واحترام الذات الإنسانية وقدراتها وإمكاناتها على التطور واجتراح الإبداع. وإذ كان التعليم مناهضا بطبيعته للاستبداد والطغيان، فليس هذا من باب الترف، فهو يوقد في ذهن المرء روح النقد والشك والمساءلة، ويدفعه دفعا إلى طريق التنوير والتقدم وتجاوز قدراته.وببساطة واضحة وجلية، فإن المجتمع المتمدن الذي يصنعه التعليم الحر هو وحده القادر على حماية الأفراد من المشكلات المجتمعية، والحق أن التعليم الحر في هذا السياق، يسدي خدمات جليلة للبشر؛ تتمثل أهمها في تصالحه مع الفكرة التي مفادها أن العلاقات البشرية لا تتسم بالكمال، ومن ثم فإن هناك حاجة جوهرية للرأي والنقاش والحوار كي يتمكن المجتمع من سماع صوته حول الطرق المثلى للتكيف مع التحديات والمصاعب وتحقيق التقدم. ويسري ما سبق على الأفراد، إذ إنهم بحاجة إلى أن يكونوا أحرارا كي يختبروا طرائق متباينة في الحياة وفي سعيهم للظفر بالسعادة، ويفسحوا مجالا أرحب للاختلافات الشخصية شريطة ألا تلحق هذه الصيرورة الأذى بالآخرين.توضح علاقة التعليم بالفضيلة بسبل لا يرقى إليها الشك، أننا نميل إلى الاعتقاد بأن التناحرات الأخلاقية التي نعيشها هي اختلافات حول المبادئ، ولكنها في واقع الحال، صراعات لا تدور حول الأسس الأخلاقية بقدر ما هي منازعات حول تطبيق هذه الأسس على إشكاليات محددة. وإذا لم نستوعب جيدا هذا الأمر فإن صناعة لجان أخلاقية أو أجهزة لتعميم القيم سيقودنا لا محالة إلى ازدراء الفضائل وإيثار التمرغ بالتقاليد البالية، ومتابعة الخوض في مستنقع السلوك الجمعي، وسيجعل من فكرة الظفر بالتقدم والنماء أقرب ما تكون إلى الطوبى منها إلى الواقع.