جان دوست... «ثلاث خطوات إلى المشنقة»
يتماهى الروائي السوري الكردي، المقيم في ألمانيا، جان دوست، مع قضايا ونضالات وتاريخ شعبه في روايته الجديدة "ثلاث خطوات إلى المشنقة"، التي وصلت إليّ نسخة "بي دي إف" منها، وستصدر خلال الأيام المقبلة عن دار الساقي، لتكون متوافرة في معرض الرياض الدولي للكتاب.الرواية ذات منحى تاريخي توثيقي، وتتناول سيرة المناضل الكردي الشيخ سعيد بيران النقشبندي، الذي حلم بدولة كردية مستقلة، وتزعّم ثورة شعبية في وجه الدولة العثمانية التركية إبان تحولها إلى الجمهورية، وما انتهت إليه تلك الثورة بوصوله إلى حبل المشنقة.إن حرفة الروائي تكمن في قدرة جان دوست المبدعة على نشر الزمن اللحظي للرواية، الذي يصاحب خطوات الشيخ السبعيني إلى حبل المشنقة، ليشمل حياته كلها. زمن لحظي يتمدد بعدد خطوات الشيخ ليغطي سبعين سنة من حياة الرجل. كيف يمكن لدقائق أن تستوعب عمراً بأكمله؟ ذلك هو مأزق الرواية، وذاك هو مجدها. وإذا كان الروائي الكولومبي وصاحب نوبل غارسيا ماركيز يصرّح: "وحده عنصر الزمن يخيفني أكثر حين أكتب الرواية". فتصور ما قد يرد على مخيلة الشيخ سعيد، وهو في طريقه للقاء مصيره المحتوم هو ما تتناوله الرواية ليكون متناً لحكايتها.
المتابع للشأن المأساوي السوري منذ اندلاع الثورة عام 2011، يرى صدق مقولة الرواية غير المباشرة: كم يشبه اليوم البارحة! وكم يبدو التاريخ المرير متكرراً، وتحديداً في مأساة الأكراد التي لا تريد أن تنتهي! "كل ثوراتنا التي نشبت، لم تكن سوى بندقيتين أطلقتا النار بدون تناغم ثم تبعتها المشانق". ص5، أو كما سمع الشيخ سعيد مريديه وخاصته يرددون: "أن حركته ستكون مثل ما سبقها من حركات تمرد، حبة جوز تُلقى على ظهر قبّة فلا تستقر عليها". كانوا يقولون: "نحن الكرد نخوض الثورات تماماً كما يدخل العميان حلقة رقص. فلا هم يعرفون أين يضعون أقدامهم ولا هم يعرفون أين رأس الدبكة". ص5 هكذا يلخّص جان دوست على لسان بطل روايته الشيخ سعيد النقشبندي مأزق الثورات الكردية، بينما هو واقف أمام حبل المشنقة الذي يلمع بالزيت. الرواية تُظهر تعقّد المسألة الكردية، بين انقسامات الأكراد وشيوخ القبائل وخياناتهم من جهة، وبين تركيا ومصالح الدول الكبرى، كروسيا وإنكلترا وفرنسا من جهة أخرى. وهي تبيّن بشكل واضح المؤامرات والدسائس التي تُحاك في المؤتمرات، حيث يسعى الجميع لمصلحته الخاصة، ولا شأن له بمصلحة الثورة الكردية وحق الشعب الكردي في دولة تخصّه، ونهر الدم الكردي الذي لا يكاد يتوقف عن الهدير! وحده صوت الراوي العليم يقود القص من البدء وحتى المنتهى، فالرواية مكتوبة بصيغة ضمير الغائب، وبلغة شعرية، كون بطلها الشيخ سعيد ينتمي إلى الطريقة النقشبندية، وهي طريقة صوفية ترى في طلوع الروح وانتقال الإنسان إلى الحياة الأخرى خطوة رابعة يخطوها الإنسان لملاقاة ربه، باعتبار أن الموت هو الخطوة الثالثة التي كانت تنتظر الشيخ. "الموت صنارة لا مرئية تعلق بفم المرء يوم يولد. ثم تنغرز تلك الصنارة أكثر فأكثر كلما أراد اقتلاعها". ص18 الرواية وفي خضم غوصها بهواجس الشعب الكردي في مخيلة الشيخ سعيد سائراً إلى المشنقة بينما جنديان يمسكان به، وتدمي قدمه اليسرى حصاة صغيرة استقرت بين أصبعين من أصابعه، تأتي على ذكر قصة حب نورانية بين الشيخ سعيد والفتاة "بريخان" التي تعمل في بيتهم. وكيف أن منديلاً أخضر أهدته إليه صار عَلمَاً للثورة وصاحبه طوال مسيرة حياته.الشيخ سعيد السبعيني ظل طوال الطريق إلى المشنقة، يردد بينه وبين نفسه؛ سأسأل ربي سؤالاً أخيراً لحظة أشعر بأن روحي تغادر بدني. بقي السؤال محجوباً عن القارئ حتى الصفحة الأخيرة: "نظر بعينيه الطافحتين بأمواج الأسئلة إلى السماء، وقال: إلهي... لم يكن الجندي المتأهب لسحب الكرسي من تحت قدمي الشيخ على علم بالسؤال الذي يودّ هذا العجوز أن يرميه مثل حبة كستناء على جمرة السماء المطفأة. سحب الكرسي ذا المساند الثلاثة، فاختنق السؤال المالح في فم الشيخ الجاف". ص61 اختنق الشيخ ومعه سر سؤاله، وكأن الرواية في رسالتها الأهم أرادت القول: إن سؤال الكرد الأهم سيبقى مخنوقاً في أفواههم إلى أن يشاء الله.الرواية وخلال العقود الثلاثة الماضية، استطاعت أن تكون بؤرة اهتمام الكاتب والناشر والقارئ والجوائز العالمية. وهي في سعيها لتقديم حياة فنية تجاور حياة الواقع، تتجاوزها بقدرتها على تفسير الواقع الإنساني وتشخيص أمراضه وفضحها. لذا، فإن الروائي الكردي جان دوست خاطب العالم بقضية شعبه كأجمل ما تكون المخاطبة المبدعة عبر رواية تاريخية مكتوبة بلغة شعرية. رواية مؤثرة وموحية، تشير إلى الواقع الماثل حالياً أمامنا ولسان حالها يقول: لا شيء يفسر الواقع كما الفن الإنساني المبدع.