تشير الباحثة أنعام كجه جي في ورقتها المنشورة ضمن بحوث كتاب "النساء العربيات في العشرينات" الصادر عن تجمع الباحثات اللبنانيات ولقاء بيروت عام 2001، إلى تعليم النساء في العراق، فتقول إن المدارس كانت مقتصرة على بنات الطوائف غير المسلمة، كاليهود والمسيحيين، ولم تكن لبنات المسلمين مدرسة بالمعنى الحديث إلا عندما قرر الوالي العثماني "نامق باشا" إنشاء واحدة عام 1899 تحت اسم "إناث رشدية مكتبي"، وهناك رواية طريفة عن ظروف إنشاء تلك المدرسة، فقد اجتمع أعضاء مجلس معارف ولاية بغداد لاختيار البناية التي تصلح لمدرسة البنات، وكان من رأيهم ألا تطل شبابيكها على الشارع، وألا تشرف عليها دار مجاورة ولا أشجار عالية خشية أن يتسلقها رجل تقع عينه على الطالبات، فاقترح لهم الشاعر جميل صدقي الزهاوي المكان، وكان هو نفسه من أعضاء مجلس المعارف.

وقد رأت تلك المدرسة النور وتم تعيين "أمينة شكورة خانم" معلمة أولى لها، تعاونها ثلاث معلمات أخريات، وسجلت في المدرسة زهاء 90 طالبة، وفي يناير 1913، افتتح في بغداد مكتب الاتحاد والترقي للإناث المسلمات، وتبرع الوجيه "عبدالحسين أفندي الددة" بعشر ليرات عثمانية للمكتب، وبقي ذلك المكتب قائما حتى الاحتلال البريطاني.

Ad

وبعد انتهاء الحرب، بدأت تصل إلى العراق أنباء الدعوات المطالبة بإعطاء المرأة حقوقها، في مصر وسورية بالأخص، وأبسط تلك الحقوق التعليم، وهكذا بادرت "زهرة خضر"، إحدى المتعلمات من نساء بغداد إلى افتتاح مدرسة خاصة حملت اسمها، عام 1918، ذات صفوف ثلاثة، وسجلت في كل صف أربعون طالبة، وكانت الدروس تقتصر على قراءة القرآن والحساب وبعض الفنون المنزلية. وفي العام نفسه افتتحت مدرسة ابتدائية رسمية للبنات في كربلاء بلغ عدد التلميذات فيها عشرين طالبة.

بدأت الدعوة إلى افتتاح مدرسة رسمية للبنات ترتفع مع اقتراب عام 1920، وتحمست للدعوة بعض سيدات العائلات البغدادية المعروفة، فاهتزت أوساط المحافظين فزعا وجزعا، واعتبروا تلك الدعوة مناسبة للخروج بالفتيات عن الطريق السوي، ولكن إدارة المعارف عقدت العزم على تنفيذ تلك الخطوة ومهدت لها، ثم استقدمت معلمة بريطانية تدعى "مس كيلي" في أوائل عام 1920 لمباشرة فتح المدرسة، وتقول "مس غيرترود بيل" في مذكراتها إن مراسم الافتتاح كانت "يوما مشهودا". وقد ألقت مس بيل في حفل الافتتاح خطابا باللغة العربية، بينت فيه منزلة الأم المتنورة ودرجة تأثيرها في أولادها وأن التربية الأولى هي الأساس الذي يبنى عليه مستقبل حياة الطفل، لذلك فإن الغاية من هذه المدرسة هي تحضير أمهات صالحات. ووعدت مس بيل أهالي التلميذات بأن الإدارة ستحترم عاداتهم ومقدساتهم تماما، بحيث لا يخول لناظر المعارف نفسه أن يزورها، بل تم تجنب تعيين طبيب لمعاينة الطالبات وعينت طبيبة.

واتخذت المدرسة بناية واسعة في شارع الرشيد، وحددت الدراسة فيها على فترتين صباحية ومسائية، والأجرة روبية واحدة في الشهر، ولم يزد عدد تلميذاتها على ثماني طالبات، وبافتتاحها أوصدت المعلمة "زهرة خضر" أبواب مدرستها وانضمت للتدريس في المدرسة الجديدة.

ثارت نفوس المتزمتين ضد العائلات التي سمحت لبناتها بالتسجيل في المدرسة، ووجهت لهن الشتائم والسباب والتهم الشائنة، بل رجمن بالحجارة متعلمات ومعلمات، واضطرت السلطات إلى وضع حرس خاص على الباب لحماية الداخلات إليها والخارجات منها، لكن التطور أخذ مجراه، ثم ارتفع عدد المدارس بعد خمس سنوات إلى 27 مدرسة، وعدد الطالبات إلى أكثر من أربعة آلاف طالبة.

وفي عام 1926 سافرت "مديحة صالح زكي" إلى فرنسا للدراسة على نفقتها، وقد تخصصت في طب الأسنان، وفي السنة ذاتها أوفدت وزارة المعارف كلا من "مديحة ياسين عمر" و"مارتا عساف" في بعثة حكومية، ودرست مديحة الفنون التشكيلية وأصبحت رسامة معروفة فيما بعد، وفي عام 1923 تم تأسيس "نادي النهضة النسائية"، وقد تحرك المتزمتون لعرقلة تأسيس النادي، لكن النساء اللواتي دعون إلى إقامته كن من سيدات المجتمع المعروفات، كما كنّ مسنودات من أزواجهن. وقد اختيرت "أسماء الزهاوي"، شقيقة الشاعر المعروف، رئيسة للنادي، وواجهت اعتراضات المتزمتين الذين اشتكوا لدى الحكومة، وطالبوا برفع كلمة النهضة من الاسم، ولما أيدت السلطات هذا الرأي، تقول الباحثة، قررت الزهاوي إغلاق أبواب النادي. ومن الإضافات المفيدة في بحث السيدة أنعام كجه جي حول بدايات النهضة النسائية في العراق إشارتها إلى شيئين هما نساء الأقليات، ودور الأم في حياة شعراء العراق الكبار.

فقد عرف عن الملك فيصل الأول تسامحه الديني، حيث ألقى خطبة لدى قدومه إلى بغداد أقامته له الطائفة اليهودية في يوليو 1921 قال فيها: "لا شيء في عرف الوطنية اسمه مسلم ومسيحي ويهودي، بل هناك شيء يقال له العراق". غير أن درجات الانفتاح الاجتماعي والتحصيل العلمي تفاوتت بين أتباع الأديان الثلاثة وبخاصة بين النساء، وذلك أن نساء الطائفتين المسيحية واليهودية لم يعانين من منع الاختلاط بين الجنسين، وأتيحت لهن فرص دخول المدارس قبل غيرهن، بفضل مدارس الطوائف ومدارس البعثات الدينية والراهبات، وقد برزت السيدة "حفصة خان النقيب" بين نساء كردستان، وكان لها مجلس ثقافي واجتماعي أقامته في بيتها، يرتاده رجال الفكر والسياسة في النصف الأول من القرن العشرين، وكان المستشرقون الذين يقصدون المنطقة يحرصون على زيارة مجلس حفصة أو "حه بسة" باللفظ الكردي في السليمانية، وهناك شخصية نسائية ثانية تستحق الدراسة وهي "سرمة خانم" عمة زعيم الآشوريين "إيشاي مار شمعون"، التي كانت صاحبة القرار الفعلي في إدارة شؤون الطائفة في فترة شديدة الاضطراب.

ومن الطائفة اليهودية، تشير الباحثة، إلى "لورا خضوري" التي أقام زوجها مدرسة لتخليد ذكراها في أوائل القرن، زاد عدد تلميذاتها على المئة، وكان للسيدة "مليحة اسحيّق" صالون أدبي في بغداد يحضره رجال الشعر والأدب كما كانت الفنانة اليهودية "سليمة مراد"، رائدة للغناء الحديث في العراق، وذات سطوة وأيما سطوة على الرجال آنذاك، لها من المعجبين ما كان لأم كلثوم في مصر.

أما عن تأثير الأم على شعراء العراق، فإن الشاعر معروف الرصافي يقول عن والدته فاطمة بنت جاسم": "كانت مرجعي في كل شيء حتى بعد تجاوزي العقد الأول من حياتي، لأني كنت لا أرى أبي إلا قليلاً، أنا اليوم كلما ذكرتها جاشت نفسي بالأحزان لأنني أشعر أنني لم يساعدني الحظ على القيام بالواجب الذي لها عليّ".

ومن المعروف أن الرصافي كان في إسطنبول عندما توفيت والدته في بغداد، ولم يبلغه خبر وفاتها إلا بعد عودته سنة 1921.

ويقول الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري إن والدته فاطمة بنت الشيخ شريف كانت ربة بيت "إلا أنها تعلمت القراءة وقليلاً من الكتابة وشيئاً من التذوق في مجال الشعر والأدب، وعنها ورثت ذلك"، أما الشاعرة نازك الملائكة، فهي شاعرة أُمّاً عن جدة! فقد كانت جدتها "هداية" امرأة تعرف القراءة والكتابة، وتحب الشعر وتقرضه، وكانت تنشر شعرها باسم "أم عبد الصاحب الملائكة"، نسبة إلى اسم أكبر أولادها الذكور، وقد احتذت ابنتها سلمى أو سليمة، والدة نازك، حذوها، وكتبت الشعر ونشرته باسم أم نزار!