كانت بغداد طوال أعوام، تفتخر بامتلاكها احتياطياً من النقد الأجنبي بلغ نحو ثمانين مليار دولار عام 2014، وظلت القوى السياسية تطلب من الحكومة عدم المساس به، لأنه ضمانة اقتصادية نادرة في بلد بلا استقرار، لكن المسؤولين الحكوميين اليوم يعترفون بأنه تعرض لاستنزاف ولم يبق منه سوى أربعين ملياراً، التي لا تعني كثيراً، إذ تعادل رواتب الموظفين والإعانات لعشرة شهور فقط، بعد أن تسبب انهيار سوق النفط المزمن في عجز متواصل بالموازنة المالية.

والأرقام المتسربة من «العتب والعتب المضاد» في أروقة الدولة، تفاجئ العراقيين الذين سبق أن أسقطوا ديوناً بمئة وعشرين مليار دولار اقترضها صدام حسين لسد نفقات الحرب مع إيران، بينما يتردد بين أوساط الحكومة اليوم أن الدَّين بلغ ثمانين ملياراً لسد الرواتب وتغطية فاتورة الحرب المكلفة مع «داعش» وما تخلفه من أزمة إنسانية.

Ad

وبسبب نقص المال، يواجه الجيش، وهو يحقق تقدماً كبيراً ضد «داعش»، معضلة حقيقية لتوفير عتاده حتى بدأ الضباط مؤخراً «نبش» المعسكرات القديمة، حيث خزّن نظام صدام كميات هائلة من الصواريخ والأعتدة التي يمكن استخدامها ثانية ببعض التحوير، في حين ينهمك ما تبقى من خبراء التصنيع العسكري في عمليات معقدة لمواءمة عتاد الأمس الروسي مع سلاح اليوم الأميركي، فصواريخ سام الروسية المضادة للطائرات يجري تحويرها لتصبح ذخيرة للراجمة الأميركية.

وباتت قذائف روسية أخرى (مدفع 57 ملم) تعمل مع مدفع عربة همفي الأميركية لمعالجة مدرعات «داعش» المفخخة التي كبدت العراقيين خسائر فادحة، ولا يمكن معالجتها بالقذائف المتوسطة، لأنها تحتاج إلى صاروخ كورنيت أميركي تبلغ كلفته خمسين ألف دولار، ويحتاج الرماة في العادة إلى ثلاثة مقذوفات على الأقل لتدمير العربة السريعة المتوغلة في الأزقة ضمن حرب الشوارع، وإذا عرفنا أن «داعش» استخدم 700 عربة مفخخة خلال الشهر الأول من حرب الموصل فسندرك عن أي كلفة حربية نتحدث.

ويخشى المسؤولون وقادة الأحزاب من نقمة شعبية أو «ثورة جياع» إذا تعرضت المرتبات الحكومية لتقليص، ويعاني الجانب المدني نقص سيولة لا يقل عن المجال العسكري، إذ لم تتسلم الشركات الخاصة مستحقاتها من الحكومة منذ سنتين، مما أدى إلى إنهاك القطاع الخاص، الذي انتعش نسبياً في الأعوام السابقة، كما لا توجد موازنات للحكومات المحلية التي تراجع إنفاقها على برامج الإعمار بنسبة تقدر بثمانين في المئة، مما تسبب في كساد بقطاع الإنشاءات والمقاولات.

ويذكر الخبراء أن التحسن في أسعار النفط لن يسمح للعراق بالخروج من مرحلة الخطر إلا إذا عاد سعر البرميل إلى معدل 90 دولاراً، وهو أمر صعب جداً، خصوصاً أن الزيادة الكبيرة في معدلات إنتاج النفط العراقي من مليونين وخمسمئة ألف برميل عام 2003، إلى نحو خمسة ملايين برميل حالياً، تتطلب من بغداد أن تدفع ما لا يقل عن 15 مليار دولار سنوياً لعمالقة البترول الذين يستثمرون في كبريات حقول النفط، كأتعاب وتكلفة مضافة.

ويكافح رئيس الحكومة حيدر العبادي مع صندوق النقد الدولي والمؤسسات الأميركية لتجاوز الأزمة الطاحنة وإصلاح تدريجي للاقتصاد، خصوصاً الترهل الوظيفي بالقطاع العام، لكن هذه البرامج ستترك آثاراً قاسية على الجمهور، وستجد من يستغلها انتخابياً ضد العبادي بنحو دراماتيكي.