Film Noir بالأبيض والأسود
فضول المعرفة يجتاح العقل في موجات: قد تحتل الموسيقى موجة تمتد لأيام، ثم تجتاحها موجة الرواية، أو موجة الشعر، وقد تتجاوز الموجة عالم الكلمة إلى التشكيل، ثم تتسع للسينما، أو ترفعها رغبة الأفكار إلى الفلسفة... الخ. ويبدو الكتاب في هذا الفضول العاصف وسيلة قاصرة الخدمة، فيسعفه الإنترنت، بل يحتل مكانته، لأن الإنترنت غير عاجز عن توفير الكتاب رقميا، تقرأه في جهاز أخف من الكتاب الورقي، تحتضنه راحة اليد حيث تكون وتذهب.أطرف الموجات التي خبرتُها مؤخرا كانت موجة السينما، وفي زمن من تاريخها كمْ علِق في وجداني منذ كنتُ صبياً في مطلع الستينيات. كانت بغداد عاصمة دور السينما في العالم العربي دون منازع، لا في كثافة عددها فقط، بل في معمارها المتميز بالرحابة والجمال. كنا نرى موجة الأفلام التي اجتاحت السينما الأميركية، والغربية عامة في عقدي الأربعينيات والخمسينيات. فيما بعد عرفت أن أفلام هذه الموجة كانت تسمى Film Noir، وهي موجة متميزة ومألوفة لدى عشاق السينما.المصطلح فرنسي، لكن الأداء أميركي، ثم اتسع إلى أوروبا، فالعالم المنتج للسينما.
"فيلم نوار" (أو الفيلم المعتم)، الذي تميز ببراعة الأبيض والأسود، تأثرا بالسينما التعبيرية الألمانية، كان من حيث الموضوع يعتمد روايات الجريمة التي شاعت آنذاك على أثر الأزمات الاقتصادية الكبيرة التي اجتاحت أميركا. ولعل التعبيرية الألمانية التي ولدت في النصف الأول من القرن العشرين وغطت معظم فنون التعبير آنذاك، ذهبت إلى أميركا مع هجرة التعبيريين إثر صعود النازية في الثلاثينيات. ثمة سحر في أداء كامرتهم السينمائية، وثمة شاعرية غامضة في قصصهم (يمكن الاطلاع على فيلم M كنموذج، الذي أخرجه فريتس لانغ عام 1931، في اليوتيوب). لقد أسسوا قاعدة لهذه الموجة الأميركية التي انطلقت واسعة مع مطلع الأربعينيات. لحسن الحظ أن معظم هذه الأفلام متوافرة مجانا في الإنترنت، باستثناء القليل، الذي حُجب ويتطلب شراءً. لقد قضيت قرابة شهرين مع عشرات منها، أتابعها بلا حساب، حتى سطا الأبيض والأسود على الألوان في مطالعتي السينمائية. عدد منها حل وسيطا بين الحاضر أمام الشاشة الإلكترونية في بيتي اللندني، وبين ذاكرتي داخل بهو "ميامي" و"الخيام" و"روكسي" و"رِكس" و"السندباد" وأبهاء السينمات الأخرى في بغداد. لم أكن أرى إلا نتائج أزمة "الكساد الكبير" الأميركية: فرغبة الاستحواذ على المال تتطلب مافيات معبأة بالمرتزقة والسلاح، تتطلب نساءً وسائط لا للمتع الجسدية فقط، بل للإغواء والارتشاء، قوى شرطة تعتمد جسارة رجل واحد منها، أو عميل سري لا حول له ولا قوة، أو آخر له كل الحول والقوة لملاحقة المجرمين... الخ. والعجيب أن البطل في هذه الأفلام لا ينطوي على الإثارة التي تتمتع بها إثارة البطل في أفلام "رعاة البقر" المعروفة. البطلُ في "الفيلم المعتم" يستثير الشفقة أحيانا كثيرة. إنه هو الآخر داخل أتون "المدينة" الحديثة في ذروة سطوة رأس المال، وما يخلف من جشع، ودناءة وتردٍ. لكن هذا "الفيلم المعتم" لا يتخلى عن التنوير الأخلاقي. فما من جريمة، أو خيانة زوجية إلا وتخضع للعقاب في النهاية. إنهم جميعا، بصورة من الصور، ضحايا "المدينة الحديثة" التي تحدّثَ عنها شعر تي أس أليوت: "دعينا نذهب أنتِ وأنا/ حين يمتد مساء المدينة في الأفق مثل مريض مخدّر فوق طاولة...".كان ممثلو الأفلام، بسبب صورهم، يحتلون الذاكرة بصورة أيسر من مخرجيها، ولذلك كنت أتابعهم: جيمس كاجني، همفري بوغارد، روبرت متشَم، باربارا ستانوِك، ادورد روبنسون، بيرت لانكستر، ديرك بوغارد، ريتا هَيْورث... وعشرات غيرهم. على أني لا أفرط بمتعة متابعة المواقف النقدية من كل فيلم، متوافرة في موقع IMDb.أزمات المدن الكبرى تغيرت طبيعة العنف فيها اليوم. لم يعد عنفَ أزمة كساد، بل أحاطتها العولمة برعاية عنف أزمات تجاوزت المال إلى الأيديولوجيا، والعقائد الدينية، وطوائفها. والسينما لا تكترث لمسائل مثيرة للحساسية كهذه إلا ما ندر، فهجرت الواقع إلى العنف في الخيال الأسطوري والعلمي على السواء.