خلال الشهر الماضي، أطلقت ائتلافات سلفية مصرية حملة سُميت "عاصفة الحذف"، بهدف إزالة نحو 216 قناة فضائية شيعية من أجهزة استقبال البث العربية، بعدما رأى القائمون على الحملة أن تلك القنوات "تطعن في الإسلام السني، وتحرض على الفتنة".

لا يمكن القول إن الإعلام بشكل عام، أو الفضائيات تحديداً، يمكن أن تخلق فتنة طائفية أو تؤججها بمعزل عن سياق سياسي واجتماعي واقتصادي وأمني موات، لكن المؤكد أن بعض الفضائيات تلعب أدواراً مهمة في تغذية خطاب الكراهية والتمييز بين أتباع الأديان والمذاهب.

Ad

تتصادم هذه الحملة بالطبع مع مفهوم حرية الرأي والتعبير، بما يشمله من إتاحة الصدور، وتطرح تحدياً على القائمين على إدارة المجال الإعلامي، المطالبين بتحقيق التوازن بين هذا المفهوم من جانب، وحماية المعايير الحقوقية والمهنية، وصيانة الأمن الوطني من جانب آخر.

ثمة تجارب غربية موحية يمكن استخلاص العبر منها في هذا الصدد؛ إذ يتم توقيف مقدمي البرامج، ووقف بث بعض القنوات في الولايات المتحدة، وأوروبا، إذا ما وجدت أجهزة تنظيم البث تجاوزات يمكن أن تثير الفتنة أو تطعن في المعتقدات.

تقوم هيئات تنظيم البث إذن بمنع قنوات من الظهور أحياناً، أو تخاطب سلطات الأقمار الاصطناعية التي لا تقع تحت إشرافها، وتطالبها بوقف بث الحصص البرامجية أو القنوات التي تنتهك المعايير المرعية في هذا الصدد، كما فعل المجلس الأعلى للإعلام المسموع والمرئي في فرنسا في 2004، حين أوقف بث قناة المنار، وفي 2010 حين طالب "نايل سات" بوقف بث قناة "الرحمة"، بداعي وجود ممارسات تمييزية ضد بعض أتباع الأديان.

من بين 1320 قناة فضائية عربية، هناك 125 قناة دينية؛ إذ تحتل الفضائيات الدينية المرتبة الثالثة بين غيرها من التخصصات، وفق دراسة لاتحاد الإذاعات العربية صدرت مطلع عام 2014.

لكن الشكاوى تتزايد جراء أنماط الأداء التي تعتمدها بعض تلك القنوات الـ 125، وخصوصاً تلك القنوات التي تتخذ طابعاً مذهبياً، وتنحو منحى طائفياً، وتستخدم لغة تحريضية، بدافع إثارة الكراهية، وتمجيد العنف.

ثمة مشكلة أخرى تظهر في وجود أقمار اصطناعية أجنبية، يتقاطع مجالها مع أقمار اصطناعية عربية مثل "نايل سات"، وبالتالي يستطيع المشتركون في خدمات تلك الأخيرة استقبال بث قنوات تبث من خارج المنطقة، ويعرض بعضها محتوى ذا طبيعة طائفية.

يعتقد البعض أن الدول الغربية المتقدمة تقصي الدين تماماً من الحياة الاجتماعية، وتجعله مقتصراً على بعض الممارسات والشعائر في دور العبادة، وتحد من الحديث عنه أو تقيد حرية الدعوة إليه، وهو أمر غير صحيح بالطبع.

فكثير من الدول الغربية المتقدمة تشهد أنماطاً متباينة من التدين، والغالبية العظمى منها تتيح بث قنوات فضائية تقدم محتوى دينياً؛ باعتبار أن الدين ركيزة مهمة لدى شعوبها، وأن تقديم المحتوى الديني والحق في التعرض له أحد الحقوق الأساسية للمواطن والمقيم.

ولذلك، فإن تلك الدول تعرف عدداً من القنوات التي تقدم المحتوى الديني فقط، كما تعرف قنوات أخرى تقدم محتوى منوعاً، لكنها تخصص مساحة من بثها لتقديم برامج ومتابعات دينية.

وقد استطاع عدد من تلك الدول المتقدمة وضع أسس وقواعد إرشادية لتقديم المحتوى الديني، بحيث تلبي حاجة الجمهور من الجرعات الإعلامية الدينية المطلوبة، وتحدد أسس الممارسة المهنية، وتحد من إمكانية وقوع الأخطاء في هذا المجال الحساس في الوقت نفسه.

وتتضمن تلك القواعد ضرورة ألا يتضمن المحتوى الديني المقدم أي محاولة لـ"استقطاب" أتباع الأديان الأخرى، من خلال الإلحاح عليهم أو تقديم مزايا وإغراءات لهم.

ويتم إلزام تلك القنوات أيضاً بضرورة تفادي الحديث السلبي عن الأديان الأخرى، وعدم الطعن في تلك الأديان، أو المساس بها أو بمعتنقيها، وإذا استدعت الضرورة ذكر تلك الأديان، أو "رسلها"، أو رموزها، أو أتباعها، ضمن معالجة إعلامية ما؛ فيجب ألا يتم هذا من خلال مقارنة تعزز موقف الديانة التي تروج لها القناة، في مقابل الحط من شأن الآخرين، كما ينبغي أن يتم هذا بالقدر الواجب من الاحترام لأصحاب المعتقدات الأخرى.

وتلزم تلك الدول القنوات الدينية أيضاً بضرورة احترام الحقائق العلمية، وعدم تقديم معلومات أو أفكار "مشوهة" أو تم دحضها علمياً، أو "تروج أو تشجع على ممارسات يمكن أن تسبب الأذى للمستهدفين أو أي من أفراد الجمهور". كما تلزمها بتجنب "التمييز" بين أفراد الجمهور استناداً إلى هوياتهم الدينية أو ممارساتهم الشعائرية.

تحدث بالطبع انتهاكات عديدة لتلك المعايير من قبل عدد من القنوات الدينية؛ ولذلك فإن تلك الدول تنشئ أجهزة تتضمن آلية لتلقي الشكاوى في حق أنماط الأداء المسيئة، وتحقق فيها، وتنزل العقوبات الموجعة بحق مرتكبيها.

وفي أحيان أخرى تنتفض تلك الأجهزة، وتتدخل لإيقاف مذيعين أو برامج بعينها، بعدما يثبت التجاوز في حق تلك القيم والمعايير، وبالشكل الذي يحافظ على وحدة المجتمع وسلامته، ويحد من فرص التطرف وإثارة النعرات العصبية والعرقية والطائفية، والتحريض على العنف وإشاعة الكراهية.

لا يمكن غض البصر عن الانحيازات المنهجية لدى منظومة الإعلام الغربية، خصوصاً فيما يتعلق بحماية أتباع الدين اليهودي، لكن معظم ممارسات الحماية تمتد لتشمل أتباع أديان أو طوائف أخرى.

تلك هي بالطبع الطريقة الناجعة التي يمكن أن يتم التعامل بها مع القنوات الدينية الناطقة بالعربية، والتي يمثل وجودها ضرورة ملحة وحقاً أصيلاً للجمهور العربي المتدين، لكن هذا الأمر يحتاج تنظيماً رشيداً ومتكاملاً للمجال الإعلامي.

فأفضل ما يمكن أن تفعله سلطات البث في هذا الصدد أن تكون معاييرها واضحة ومعلنة وشفافة، وأن تطبقها بعدالة على الجميع، ولا تكيل بأكثر من مكيال.

على المنظومة الإعلامية العربية أن تسمح بحرية إطلاق الفضائيات الدينية، على أن تلزمها بمعايير أداء معينة، وأن تصون كرامة أتباع الأديان والمذاهب المختلفة، سواء كانوا من اليهود أو المسيحيين، أو من الشيعة أو السنة، ولا تسمح بأي ممارسة تعمق التمييز وتؤجج الكراهية.

* كاتب مصري