الإسهام الأبرز لحركة التنوير يتمثل في تشجيعها على التفكير التاريخي. وحينما نتدارس إسهامات مفكري عصر التنوير، ولاسيما المبرزين منهم، سنجد ثمة إجماعاً بينهم على أن الإنسان خاضع لحركة التاريخ، وعلى النحو الذي تخضع فيه صيرورة التاريخ الحقائق الاجتماعية في أي زمن من الأزمان للتحولات والتغيرات، بل، أبعد من ذلك، يغدو التاريخ نفسه محض عملية لا تتوقف عن التقدم وبالتالي التغير.

تأسيساً على ذلك فإن أية حركة للتنوير يكون مدماكها الرئيس الإيمان بأن الإنسان قادر على أن يجترح بيديه عالماً جديداً، وبالتالي تغيير ظروف حياته وتحسينها. وهذه الجزئية هي عينها التي تجعل التنوير يشخص في أفكاره وقضاياه على النظر دوماً إلى الأمام باتجاه المستقبل، لا أن تكون بصيرته معلقة على الماضي وأفكاره.

Ad

وجوهر التنوير، بهذا المعنى، ينهض على أن عملية التقدم متاحة وممكنة للإنسان متى ما استخدم عقله وارتكن إليه بوصفه الأداة الوحيدة لاكتشاف الحقائق والمعارف وتقييمها وفحصها ومن ثم تطبيق تلك الحقائق والمعارف لخدمة الإنسانية.

ولا ريب أن الفكر التنويري على النقيض من ممارسات أخرى يقدم دعوة مفتوحة للإنسان كي يوظف طاقاته الإبداعية على نحو مثير ومشوق، وذلك كما هو معلوم، كان تحولاً مفصلياً في تاريخ أوروبا في القرن الثامن عشر، حيث شاع إيمان جديد مفاده أن الإنسان بوسعه أن يصنع مستقبله بنفسه دون وصاية من أية قوة مهما كانت، وفي الوقت عينه غدا من غير المستساغ قبول فكرة الحياة المرسومة سلفاً، وآية ذلك أن المجتمعات الأوروبية مع هبوب رياح التنوير أصبحت أقل قدرية في تعاملها مع مفاهيم الموت والمرض وغير ذلك، فقد انتهى الإنسان إلى يقين مفاده أن حياته متى ما بذل الجهد الملائم بالإمكان أن يطرأ عليها تحسن وتبدل لطالما تمناه.

بيد أن اعتناق مثُل التنوير ومبادئه بأكملها يبدو أمراً في غاية الصعوبة، إذ إن فكرة التقدم التاريخي بما تتضمنه من نهايات مفتوحة تبدو أحياناً وكأنها تنفث في دواخل الناس القلق من انعدام يقين ما.

أغلب الظن أن الرجل العادي بوسعه أن يتقبل فكرة أن الإنسان قادر على أن يصنع التاريخ، وفي الحقيقة فإن تلك الفكرة بحد ذاتها تبدو جذابة للجميع دونما استثناء، غير أن الناس يعلمون جيداً أن التجارب الاجتماعية ليس محتماً أن تقود جميعها إلى دروب التقدم، والقرن العشرون شاهد كبير على ذلك.

لذا يبدو أن الفكر القائل بأن التاريخ يتجه دوماً إلى الأمام وإلى التقدم يجد نفسه دوماً متعايشاً مع أفكار يرعبها التغير وتتطير من فكرة التبدل ذاتها، فيصبح الأمر أشبه ما يكون بالمشاحنة والتوتر ما بين قوة تدفع إلى الأمام وأخرى تشد إلى الخلف، ذلك الصراع يتمظهر بأشكال كثيرة وفقاً للثقافة وخصوصية المجتمع الذي تنشأ فيه.

ففي العالم العربي، وتحديداً في النصف الأول من القرن العشرين مع نمو حركة التنوير، مسخ هذا الصراع بين قوى تنشد العودة إلى الوراء وأخرى تتطلع إلى الأمام، إلى صراع عقائدي يستند إلى تلك "المانوية" القاتلة، فأصبح قيام المجتمع وسؤدده مرهونين بالعودة إلى الصفاء الديني في ينابيعه الأولى، ومن ثم تشجيع الارتداد إلى أصالة تميزنا عن الآخر. في حين أن تيار التنوير قد آمن بأن التقدم والتحولات الكبرى، وإن كان الغرب سباقاً إليها، يمكن إنجازها بمعرفة عناصر القوة والفاعلية والانضباط التي ميزت العقل الغربي، وفي مطلعها مفاعيل حركة التنوير. ولئن حسمت معركة التنوير في أوروبا منذ أمد طويل فإن رحى المعركة مازالت دائرة في مجتمعاتنا العربية، وحري بنا القول إن الأصوليات على اختلاف نسخها قد سجلت إصابات مؤثرة، ما جعلها تتوهم نصراً مبيناً، غير أن تلك المعركة طويلة لا يكون حسابها إلا بعقود الزمن.