"قسوة الآلهة"، مجموعة قصصية جديدة لمحمد صالح البحر، من أهم كتاب جيل التسعينيات في مصر، حصل على جوائز عربية ومحلية عدة، منها "الشارقة للإبداع العربي" عن رواية "موت وردة"، وجائزة فلسطين الدولية عن روايته "حقيبة الرسول".

كتب الرواية والقصص القصيرة والسيناريو، له ثلاثة مجاميع قصص قصيرة، هي "أزمنة الآخرين"، و"ثلاث خطوات باتجاه السماء"، والأخيرة "قسوة الآلهة"، و3 روايات هي "موت وردة" و"حقيبة الرسول" و"نصف مسافة".

Ad

كتابته ثرية قوية العبارة متميزة ومجهدة، تلتف بعض مشاهدها بالغموض والرمزية السوداوية، خاصة عندما تغوص في العوالم الداخلية لأناسها لتلقي الضوء على أدق وأصغر تفاصيلهم الحياتية.

كتابته تشعر القارئ بروح وفكر وتأمل كاتبها، مما يلقي عليه عبء ومسؤولية اليقظة والتنبه ليلتقط ويدرك ما يرمي إليه الكاتب.

تضم مجموعة "قسوة الآلهة" 11 قصة، أجملها من وجهة نظري قصة "فناء عظيم لجدة وحيدة"، تصور حركة حياة الجدة العجوز المربوطة بحركة الشمس وهي جالسة تحت أشعتها، تغير مكانها وحركتها تبعاً لتغير نور الشمس، وترتبط حياة حفيدها بحركتها، فهو مقيد بها وهي مقيدة بحركة الشمس، ولا يتحرر كلاهما إلا بموت الجدة، وهذا مقتطف منها:

"سقتني الجدة الحزن على الدوام، مع كل ثغر للشمس يبتسم فوق سطح بيتنا، ثم يميل عنه ملقياً إياه في براح الشارع ظلا وحيدا ومميزا لا تطاوله البيوت، تكون قد فارقت مرقدها وتكومت في زاوية على السطح، تنظر الشمس الطالعة من خلف سن الجبل القائم على رأس البلدة، وئيدة وضعيفة وخائفة في وجه الجدة، كأنما تستأذن في الظهور، تثبت الشمس هنيهة واقفة فوق سن الجبل، رأسها في السماء وعينها على الجدة تنتظر الإشارة، حتى تبدأ الجدة في هز رأسها وئيدة في المبتدأ، وسريعة متلاحقة من بعده، وغائبة عن الوعي مثل سكران يستلذ بشرابه، أو مريد توحّد في الحضرة، حتى يكتمل الطلوع ويبدأ الميل، تقوم الجدة تتحسس طريقها فوق الدرج لتنزل إلى صحن البيت، لا تلتفت لأحد، ولا تكلم أحدا قط، طريقها عرفناه على مر الزمن صوب الباب البراني، تعافر مزلاجه وتفتحه عن آخره في وجه الشارع المكسو بظل البيت حتى منتصفه، تطأطئ الجدة رأسها ونسمع ترديد الكلمة: حسناً".

قصصه مربوطة بعوالم الناس المهمشين المعزولين خلف مشاعر الوحدة والأحلام الغامضة وبرودة حياة بلا عواطف حقيقية، ليس لديهم إلا متع عالم الجسد والاختلاء به، لذا كثرت مشاهد الاستحمام والتفرد بلذة المياه فيه، التواجد بالحمام يمثل لهم التفرد بخصوصية لوجودهم، لا يمتلكونها خارجه.

قصة "رجل كبير بحجم قطعة الشوكولاته" تصور لحظة خيانة رجل لزوجته بسبب ملله من ركود واعتيادية الحياة معها، فيبحث عن أخرى لتشعل وقود نار التجدد فيه، الجديد فيها التركيز على "أكرة" الباب التي كثيرا ما "تعصلج" ولا تفتح، إلا في حالة اكتشاف الزوجة لخيانته، حينها فتحت بسهولة. لقطة صغيرة أعطت مذاقا مختلفا لتفصيلة لا ينتبه إليها أحد، وهذه فقرة منها:" لو أنها امتلكت ضميرها للستر على رجل أتعب نفسه في البحث عنها، وأتعب عينيه في التدقيق حائرا حتى وقعتا عليها، فاختارها من بين عشرات الأُكر الأخرى، التي ظلت تضوي ببريقها باكية على عدم اصطفائها، وهم يرونه بعين خيالهم كيف يعتني بها كل يوم، ويجعلها مفتاحا لجنته الخالدة".

قصة "طوق الحمامة" تربط بين هروب الحمامة من قفصها المعتنى به من قبل مالكها، وهروب المرأة محبوبته فاطمة الباحثة عن الرجال مالكي المال والسيارات الفارهة، صور هروبهما مندمجا بمشاهد القصة: "ليست فاطمة بالشيء الذي يؤرقني كثيرا، إنما الشيطان بمحاولاته المستميتة لإخراج الحمامة عن طوقها، صورته ينقشها في كل مكان حتى تحتوي الذاكرة، كلماته يبثها عن بُعد وعن قُرب حتى تخترق الآذان، حركاته أسرع من أن أحتويها، أو أن أشغل عنها عين الحمامة".

رمزية بعض قصص المجموعة أضفت غموضا عليها يصعب تفكيكه والوصول إلى المراد من المعنى الكامن فيها، أحيانا غموض النص يزيد من عمقه بتعدد صور تأويله، وهذه الحالة تكثر مع شعرية النص، لأن لغته تتعدد دلالاتها، مما يضفي على المعنى تفسيرات مختلفة.

تبقى هذه المجموعة القصصية لمحمد صالح البحر مختلفة بعمق اختلاف زاوية النظر لجوهر طبيعة حياة الناس من حولها.