أميركا، أم العولمة وأبوها، تنقلب اليوم على العولمة، في حين الصين التي كانت في الماضي حبيسة هواجس العولمة، تدافع اليوم عن العولمة ومكاسبها، ويراهن العالم على قيادتها للعولمة!

في دافوس، منذ أيام، ألقى الرئيس الصيني خطاب الافتتاح للمنتدى الاقتصادي العالمي، ودافع في مرافعته عن العولمة، محذراً من سياسات ترامب الانعزالية والحمائية، وتجرأت الصين وأعلنت أنها مستعدة لتحمل مسؤولية القيادة العالمية في حالة تراجع الآخرين. وفي هذا السياق تسعى بكين إلى طمأنة الآخرين بأنها الدولة التي يمكن الاعتماد عليها في التنمية الاقتصادية، أليس مما يدعو للدهشة والعجب هذا التحول الأميركي؟ لطالما اتهم الناقدون العولمة بأنها في الحقيقة "أمركة"، وهي حيلة أميركية لفرض هيمنتها السياسية والثقافية ونمط معيشتها على العالم تحت غطاء "العولمة"، واليوم ينطلق الرئيس الأميركي الجديد ترامب من سياسات جديدة مناقضة لأسس ومبادئ العولمة، يريد ترامب بناء الجدران المنيعة بين الدول وتقوية الحواجز الفاصلة بين الشعوب، يسعى إلى فرض الضرائب المرتفعة على الواردات وحتى على الشركات الأميركية في الخارج والانسحاب من الاتفاقيات التجارية العالمية، وهو فعلاً قد انسحب من اتفاقية التجارية الحرة عبر المحيط الهادئ.

Ad

ما معنى كل ذلك؟

يخلص الباحث الاقتصادي الكويتي عامر التميمي في مقالة معبرة "الشعبوية والعولمة" إلى أن المجتمعين في دافوس اهتموا بظاهرة "الشعبوية" الآخذة في الانتشار بالعالم الغربي، ومن أبرز مظاهرها، خروج بريطانيا، وانتخاب ترامب، مؤكداً أن هذه الشعبوية تشكل انتكاسة لطروحات العولمة وقيم اتفاقات "الغات" ومعايير منظمة التجارة العالمية، ويتساءل: ماذا حدث إذاً؟ ويجيب: إنه على مدى الثلاثين سنة منذ عصر العولمة في منتصف الثمانينيات، استفادت البلدان الأعضاء في منظمة التجارة الدولية من انتقال رؤوس الأموال والكثير من الصناعات من بلدان إلى أخرى سعياً وراء قلة الكلفة وتعظيم الربح، وترتب على ذلك فقد الكثير من الصناعات في الولايات المتحدة وبريطانيا، قدرات المنافسة وضبط التكاليف، وأدى ذلك إلى الاستغناء عن العمال في مصانع مشهورة مثل مصانع السيارات في "ديترويت"، وعانت صناعات أخرى، مما دفع سياسيين في الولايات المتحدة ودول أوروبية إلى تبني التوجهات الشعبوية والمطالبة بإعادة النظر في اتفاقيات التجارة الحرة والتحرر من تبعات التكتلات الاقتصادية الكبرى.

ويخلص الباحث إلى أن هذه التوجهات السياسية المنفعلة، تتناقض مع أهداف الاتحاد الأوروبي ومعايير العولمة، لكن يبدو أن هذه المجتمعات لم تستوعب المتغيرات الاقتصادية بشكل مناسب، ويختم مقالته بقوله: "لا يمكن العودة إلى الوراء في عملية التطور الاقتصادي، وليس بالإمكان تعزيز قدرات البلدان من خلال فلسفة الانعزال، لأن العالم أصبح متشابكاً اقتصادياً، وعلى البلدان التي تواجه موجات الشعبوية أن تطور أنظمتها وتعزيز البحث والتطور في مجالات صناعية وخدمية لتؤكد دورها المتميز، لا الانغلاق والعزلة... هذا التشخيص الدقيق للظاهرة الشعبوية المتصاعدة في بلدان منشأ ومصدر العولمة، يوضح تأثير الشعبوية على سياسات دولها، وكيف أن التوجهات العامة للجماهير يمكن أن تنقلب من النقيض إلى النقيض".

ما أريد قوله من هذه المقالة أنه لا ثبات للقيم والمفاهيم والمبادئ في عالم اليوم، فمن كان يصدق- وحتى قبل شهر- أن أميركا زعيمة العالم الحر، تنقلب على مبادئها، وتشيد جدراناً وحواجز وتطرد من لجأ إليها من الخائفين والمظلومين والمضطهدين، وهي التي أقامت بنيتها الثقافية الاجتماعية على دعوة مظلومي العالم باللجوء إليها؟!

ختاماً: لطالما كانت أميركا ملاذاً آمناً، تهفو إليه أفئدة وعقول، ولطالما كانت الصين طاردة لأحرارها، لكن ها هي اليوم، أميركا تطرد من لجأ إليها، وها هي الصين تبني جسور التواصل والتنمية مع العالم!

ماذا تسمي ذلك؟ سمه ما شئت، إنه "مكر التاريخ"، الروح الخفية التي تسري في عمق المجتمعات، فتحدث تغييرات وتحولات في التاريخ والمجتمعات والبشر، والقرآن الكريم علمنا أن الأمور لا تجري كما تبدو على ظواهرها "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ"، كما علمنا بقوله تعالى "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"، صدق المولى تعالى.

* كاتب قطري