في عالمنا العربي تظل قضايا الكتاب وتسويقه واقتنائه من المشكلات المزمنة التي يبدو أن لا حل لها ولا انفراج. فالمؤلف يعاني والكتاب يعاني ومؤسسات النشر تدعي أنها تعاني أيضاً، وأنت وسط هذه الدوامة من المعاناة لا تدري أين تكمن المشكلة؟ ومن المسؤول عن كل تلك التعقيدات التي تلازم صناعة الكتاب والنشر؟ قامت الزميلة ليلاس سويدان أخيراً بإجراء تحقيق صحافي في جريدة القبس عن معاناة المؤلفين على وجه الخصوص، وعن إحساسهم الدائم بالغبن إزاء لعبة الطباعة والنشر التي تشبه لعبة السُلّم والثعبان. فكلما صعدت جهودهم فوق سلم الأمل، وجدوا فم الثعبان أو ما يشبهه يبلعهم، ليهبطوا مرة أخرى إلى الخيبة حاصدين الفراغ أو الفُتات.
إلى يصل التحقيق الصحافي إلى نتيجة مفادها أن صناعة الكتابة والنشر تبدو صناعة بائرة من منظور الجدوى الاقتصادية، مع بقاء ذبالات من أمل في جدواها المعنوية والأدبية المتمثلة في التواصل مع القارئ والتأثير به.جمعني حوار مع صديقة أصدرت للتو رواية جميلة، وقد بدا عليها شيء من الارتياح كونها لم تدفع شيئاً للناشر مقابل الطباعة، ولكنه ارتياح مشوب بالحسرة، لأنها قدمت ثمرة جهدها وعصارة فكرها بالمجان على طبق من قلة الحيلة، ولم تنل بالمقابل غير خمس وعشرين نسخة من كتابها فقط لا غير! وهذا مثال يهون أمام حال الأغلب الأعم من المؤلفين الذين يدفعون مبلغاً وقدره لطباعة كتابهم، مضافاً إليه ثمرة الجهد والتعب المجانية، ثم يجلسون في انتظار أرباح عرقوب التي ينص عليها العقد، ولكنها لا تأتي إلا إذا أتي (غودو). وبعيداً عن الحروب الباردة بين المؤلف والناشر، تبرز مسألة أخرى موازية، وهي مسألة مدى توفر الكتاب للقارئ حين الطلب أو الحاجة. إذ لاتزال مصادر الكتاب تتمثل في المكتبات التجارية، وهي في بلادنا إما تكون مكتبات فقيرة، أو غير مؤهلة تنظيماً وتقنية، أو عاجزة عن مواكبة الجديد والأحدث في فضاء النشر. أما المصدر الآخر المتوافر فهو معرض الكتاب الذي يعيبه أنه مؤقت، ومربك في زحامه وصخبه، وخاضع لمعايير الرقابة وشروطها والغلاء وفحشه. ورغم هذا الوضعية المقلقة، إلا أننا لم نعدم الأمل في وجود مشاريع للكتاب والقراءة تتفتح بتؤدة وثقة لتسد تلك الفراغات المخلة. كذلك لن نعدم وجود طاقات شبابية لاتزال تحلم وتخطط وتعمل في صمت جميل، لتعبر عن شغفها بكل ما يعنيه الكتاب والكتابة وما بينهما من وشائج المتعة والكدح ولذة المشي على دربيهما.يمكن للمتأمل في مشروع مكتبة «تكوين» الذي أنشأته ورعته الروائية بثينة العيسى، ولاتزال تؤسس له بحب نادر، أن يرى مدى الاشتغال الدؤوب على فكرة مبدعة، فكرة أن تكون المكتبة مكاناً ليس للتزود بالكتاب فقط، وإنما مساحة دافئة للتواصل الثقافي والحوارات والدروس، وحديقة للأطفال والحكايات، وشجرة تطرح ثمرات الأفكار والكتابات في كل آن، مع الحرص على أن تكون ثماراً طازجة وملونة وقيد القطف والتناول.في مكتبة «تكوين» تجد كل شيء له صلة بتأسيس ذوق رفيع بنكهة مستجدة، فهناك استقطاب للشباب وغيرهم من المتميزين للتحدث في مجموعات صغيرة، أو للحوار وطرح الأفكار في زاوية حميمة بعيداً عن الأضواء وصخب «الميديا» المفتعل. وهناك ترغيب للأطفال بالقراءة والاستماع في عطلة نهاية الأسبوع حين يتحلقون حول قراء يتقنون وسائل الجذب وأدواته. وهناك عناية خاصة بالترويج للكتاب عبر المستحدث من التقنيات ووسائل التواصل الإلكتروني، وعبر التوصيل إلى عنوان الطلب، وعبر التعريف بما يستجد من إصدارات ومترجمات بأسلوب المتذوق الحاذق الذي يعرف سر مهنته ويتقنها. كذلك لـ «تكوين» جهود أخرى حثيثة في مجال ترجمة الكتب المعنية بفن الكتابة وتقنياتها، وأعتقد بأن هناك أكثر من إصدار من خلال «تكوين» في هذا المجال وبجهود أفراد قليلين ممن جمعهم الشغف بالكتابة ومحبة المعرفة.والأمل معقود على نمو هذه الواحة الثقافية وتحولها إلى مؤسسة للطباعة والنشر، تستطيع بخطها الجاد ومهنيتها العالية أن تتخطى كل عيوب صناعة الكتاب وارتباك العلاقة مع المؤلف التي ذكرناها آنفاً. «تكوين» بذرة طيبة نشم من ورائها رائحة الجديد ورائحة الطموح والرغبة في تقديم الثقافة بفن وبساطة ويسر، وجعل الكتاب وجبة يومية وروتيناً محبباً. تمنياتنا لـ «تكوين» والقائمين عليها بالنجاح المطرد في خدمة هذه الأهداف النبيلة.
توابل - ثقافات
«تكوين»... المشروع والطموح
07-02-2017