ألقى د. فهد راشد المطيري أستاذ اللسانيات النظرية في كلية التربية الأساسية، محاضرة قيمة في مركز اليرموك الثقافي ضمن فاعليات دار الآثار الإسلامية بعنوان "العقل الإنساني والمسؤولية الأخلاقية"، حضرها عدد كبير من المهتمين، تتقدمهم الشيخة حصة السالم المشرف العام لدار الآثار الإسلامية.واستهل د.المطيري المحاضرة قائلا: لعل أول سؤال يتبادر إلى الذهن حول مفهوم "العقل الإنساني" هو مدى حاجتنا إلى نسبة العقل إلى الإنسان، بمعنى آخر، إذا كان العقل مقتصرا على فصيلة الإنسان، فهل من الضروري أن نُذكّر بأن العقل الذي نقصد هو عقل الإنسان؟ لو كان الفيلسوف الفرنسي "ديكارت" بيننا هذا المساء، لأجاب بالنفي عن هذا السؤال، ولربما سخر أيضا من عنوان هذه المحاضرة، فبالنسبة إلى "ديكارت"، يكفي أن نقول "العقل" كي نعلم أن المقصود هو العقل الإنساني، فالحيوانات –بحسب "ديكارت"- ليست سوى آلات صماء لا عقل لها! لكن في المقابل، لو كان الفيلسوف الإنكليزي "ديفيد هيوم" بيننا هذا المساء، لاعترض على قول "ديكارت"، فبالنسبة إلى "هيوم" للحيوانات عقول أيضاً!
وأضاف المطيري أن من الواضح أننا أمام موقفين متناقضين: موقف "ديكارت" الذي يقصر العقل على الإنسان، وموقف "هيوم" الذي يجعل العقل مشتركا بين الإنسان وباقي الفصائل الحيوانية. لكن بالرغم من هذا التناقض بين الموقفين، بإمكاننا أن نقول إنّ كليهما – ديكارت وهيوم- على صواب إلى حدّ ما، ولكن فقط إلى حدّ ما، فلو نظرنا إلى العقل، ليس بوصفه كينونة أحادية، بل بوصفه قائمة من القدرات الإدراكية، لكان بوسعنا عندها أنّ نقسّم هذه القدرات إلى قسمين: قدرات إدراكية مقتصرة على الإنسان، وقدرات إدراكية مشتركة بين الإنسان والحيوان. هذا بالضبط ما يقوم به الباحثون في ميدان علم النفس التطوري على وجه الخصوص، وميدان علم الإدراك المقارن بشكل عام. وذكر أنه في السنوات القليلة الماضية، نشرت جامعة أكسفورد مجلدا بعنوان "علم الإدراك المقارن"، واحتوى المجلد الذي ساهم فيه نخبة من الباحثين على 34 فصلا، وضمّ أبحاثا تعقد مقارنة بين قدرات الإنسان الإدراكية وتلك التي عند بعض الفصائل الحيوانية مثل القردة والدلافين والفئران وغيرها من الفصائل، ومن ضمن تلك القدرات الإدراكية تلك المتعلقة بالذاكرة والانتباه واستخدام الأدوات، وقد خلُصت تلك الأبحاث إلى استنتاج عام يقطع بوجود استمرارية بين الحيوان والإنسان من حيث امتلاك مثل تلك القدرات الإدراكية، مع فارق لمصلحة الإنسان ومتعلق بالكم دون الكيف. وشدد على ان في المقابل، تشير تلك الأبحاث إلى وجود قدرة إدراكية مقتصرة على الإنسان فقط، وهي "اللغة"، وبطبيعة الحال، هناك اعتقاد شائع مفاده أنه مثلما أنّ للإنسان لغته الخاصة، فإنّ للحيوانات لغاتها الخاصة أيضا! يشير هذا الاعتقاد الشائع إلى نظرة ضيقة لمفهوم "اللغة" بوصفها مجرّد أداة تواصل، ولكن عندما نتوقف قليلا عند ما يميّز اللغة عن باقي وسائل التواصل الحيواني، سرعان ما نكتشف ثلاثة أمور في غاية الأهمية: الأول، هو حجم الهوة الكبيرة بين التواصل الإنساني والتواصل الحيواني؛ والثاني، هو دور اللغة في الاختلاف الكمي بين القدرات الإدراكية عند الإنسان والحيوان؛ والثالث، هو دور اللغة في إتاحة الفرصة أمام الإنسان لامتلاك قدرات إدراكية غير موجود لدى باقي الفصائل الحيوانية.واشار إلى أن الارتباط الوثيق بين اللغة والتفكير العقلاني من خلال القول الشهير لأرسطو: "الإنسان حيوان ناطق"، والمقصود هنا هو أنه إنسان "عاقل". وواصل المطيري محاضرته قائلا: هناك اختلاف جوهري بين اللغة والتفكير العقلاني، فاللغة فطرية، في حين أن التفكير العقلاني مكتسب، بمعنى آخر، يكفي أن تكون إنسانا كي تتمكن من الكلام (باستثاء الحالات المرضية بالطبع)، وأما التفكير العقلاني فيحتاج إلى جهد ومران، كما أنه يحتاج إلى جرأة كما يخبرنا "كانط"!ولفت إلى أنه لم يكن الأخذ بأسباب العقلانية سهلا، ولم يكن قطف ثماره يسيرا، فإرساء دعائم المنطق والتفكير النقدي والمنهج العلمي، وما ترتّب على كل ذلك من اكتشافات واختراعات، جاء بعد قرون طويلة من المحاولة والخطأ، ومن التحدي وخيبة الأمل. وكان نتاج كل ذلك مجموعة من السمات التي يختص بها التفكير العقلاني، وبعض هذه السمات على علاقة مباشرة بميدان الأخلاق، وأول تلك السمات هي البحث المخلص عن الحقيقة، وثانيها الاتساق المنطقي، أي ضرورة ألّا تتعارض فكرة مع فكرة أخرى في آن واحد، وثالثها القدرة على التفريق بين اليقين والاحتمال، فما بين ما هو يقين وما هو مستحيل درجات متفاوتة مما هو محتمل، ورابعها التواضع المعرفي، ويُضاف إليها سمة الانصياع إلى النقد واحترام الدليل العقلي أو العلمي. واستطرد: إذا كانت اللغة قد أتاحت للإنسان إمكانية التفكير وفحص صحة الأفكار، فما الذي أتاحه هذا التفكير بدوره؟ في تجربة ذهنية طرحها الفيلسوف المعاصر "جون ماكدويل"، يطلب منا هذا الفيلسوف أن نتخيل ذئبا من الذئاب وقد اكتسب عقلا على غرار عقل الإنسان! من المعروف أن للذئاب غريزة تتمثل بتوزيع الجهد بينها عند محاولة اصطياد الفريسة، لكن هذا الذئب "العاقل" سيكون الوحيد القادر على التأمّل في هذه الغريزة ومدى حاجته إلى اتباعها، فبإمكانه أن يقرر عدم بذل أي مجهود إلّا بعد أن تكون الوجبة جاهزة للاتهام! هذا يعني أن التفكير أتاح للذئب رؤية قائمة من خيارات السلوك واتخاذ أكثرها انسجاما مع مصلحته، وبذلك اقتضى التفكير في عواقب السلوك أن يكون الكائن العاقل فاعلا أخلاقيا بالضرورة.
العلاقة بين العقل والأخلاق
أستشهد المطيري بالكاتب الإنكليزي وليام كليفورد الذي قال: أن ميدان الأخلاق لا يقتصر على السلوك فقط، بل يتعدّاه إلى ميدان الأفكار التي له أثر مباشر على السلوك، ولهذا من الواجب الأخلاقي أن نفحص مدى صحة أفكارنا قبل محاولة دفع الآخرين إلى أن يسلكوا سلوكا متماشيا مع تلك الأفكار، فالآثار المترتبة على الفعل اللاأخلاقي أكثر ضررا من نتائجه المباشرة والسطحية: "لو قمت بسرقة مال من أي شخص، قد لا ينتج ضرر مباشر من هذا التحويل غير المشروع للملكية، فالشخص قد لا يشعر بالسرقة أو لعلي ساهمت في منعه من سوء استخدام المال، ولكن لن أستطيع مهما فعلت أن أمحو الخطيئة التي ارتكبتها بحق الآخرين، وهي أني لم أكن نزيها! ما هو مؤلم لأي مجتمع ليس أن يفقد ممتلكاته، بل أن يتحول إلى وكر للصوص، فعندها لن يكون بمقدورنا حتى أن نسميه مجتمعا"!