لطالما كان الشِّعر فراشتي السحرية التي أبقَت الطفل في قلبي حياً حتى الآن.

كنت وما زلت أريد أن أكبر، لكن ليس على حساب ذاك الطفل وحفر قبر له بداخلي، وتلك معادلة ليست صعبة فقط، لكنها أيضا خطرة، إنها كمحاولة المشي بطول الهاوية - وليس بعرضها- على حبل مشدود، وخاصة في مجتمعات كل ما فيها ينهر الطفولة، وينتظر اللحظة المناسبة لقنصها وصلبها على حائط العمر!

Ad

لم يكن في طفولتي – رغم عاديتها- ما يجعلني أودّع ذلك الطفل وأطوي سجّل حياته، وأصدر شهادة وفاته. لم يكن من السهل عليّ أن أنكر عشرته، أو أتحاشى رفقته، فليس من سبب وجيه يدفعني لذلك الفعل المتّسم بقلة الوفاء، إذ لا أذكر أن ذلك الطفل رسم على جدار العمر خطاً أسود لا يُمحى، أو عبارات سيئة لا تزول، بل على العكس تماما، لقد زين ذلك الجدار برسوماته الطفولية بخطوطها المشاغبة للمعنى والموغلة في اللون، والتي مازالت معلقة في ذات المكان على ذات الجدار، وما زلت أمر بتلك اللوحات عندما يعنّ لي أن أتجول في ردهات العمر وأقف كثيراً أمامها ويداي مكتوفة خلف ظهري تكتسي البسمة كلي. ورغم شغب ذاك الطفل وحبه للعب والمرح، لا أذكر أنه كسر فازة بقصد بين الضلوع سوى مرات قليلة، وكان في حالة نزق طفولي حينها، إلا أنه في المقابل لطالما ساعدني في ملء معظم تلك الفازات بالزهور والورد، وكثيرا ما أعاد ترميم ما يسقط سهواً أو عمداً بأقدام العابرين بين الضلوع، وعندما تجف الأزهار في تلك الفازات أحياناً، يصبح ذلك الطفل فقط أندى ما فيني إلى أن تدبّ الحياة في تلك الزهور مرة أخرى، وعندما كنت أجاري طفولته في حال رغبتي بالخروج عن "نصّ العقل" يفاجئني ذاك الطفل بنضوجه قبل الأوان، ويغضيني بنعمة العقل، ثم أشكره لاحقا، لأنه أنقذني من طيش عقلي!

سأظل أحمي هذا الطفل حتى من أطفالي، ولن أتنازل عن رفقته، ولن أبيعه للنسيان، فلطالما أخذ بيدي في الظلمات الحالكة، ووضع أصبعي على مفاتيح الضوء بي، وهو الذي كثيرا ما رآني غاضباً وجلس في ركن وتجاهلني كأنه لم يرني، ثم يقوم بافتعال حركات طفولية، ويرمي كلمات غبيّة لا يوجهها لي مباشرة تزيدني غيظا حدّ الابتسام، وحين ابتسم يتصنع أنه للتو لاحظ وجودي وانتبه لغضبي، حينها فقط يقترب مني ويحاول معرفة ما بي، يسمعني بعقل صديق، ويقول رأيه بقلب محب!

بفضل ذاك الطفل أصبح من اليسير عليّ نسيان الأسيّة، وبفضله مازالت أشياء بسيطة وصغيرة في الحياة تمنحني لذة الدهشة، فالذين تخلصوا من الطفل فيهم أو تركوه يكبر معهم ويشيخ بقيت الدهشة عصية عليهم ما تبقى من أعمارهم، وبقي فيهم الإحساس بالمرح والمتعة والحياة ينقصه طفل يصعب بعثه من جديد!