لم يف الرئيس ترامب بكثير من الوعود التي قطعها على نفسه أثناء حملته الانتخابية، ومن ذلك أنه لم يلغ الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة الدول الست؛ وهو أمر يمكن فهمه في إطار التباينات الضرورية بين الخطاب الانتخابي والفعل الرئاسي.

لقد تراجع "الخطاب الترامبي" خطوة حيال إيران؛ فبدلاً من الحديث عن الإلغاء الفوري للاتفاق عشية دخول البيت الأبيض، يدور الحديث راهناً عن "مراجعة الاتفاق"، وهذا الأمر يعني صعوبة شن حرب ضد إيران، واستبعاد احتمالات إلغاء الاتفاق إلغاء فورياً من جانب، لكنه يعني، من جانب آخر، أن الصيغة التي اتبعها الرئيس السابق أوباما لن تكون صالحة للاستمرار في عهد ترامب.

Ad

لذلك، فقد جرى "التلاسن الدبلوماسي" خلال الأيام الماضية، حين أجرت إيران تجربة جديدة لاختبار أحد صواريخها "الباليستية" محلية الصنع، وهي التجربة التي اعتبرها ترامب "استفزازية ووقحة"، مؤكداً أنه "يختلف" في تعاطيه مع إيران مع سلفه أوباما، قبل أن يأتيه الرد من روحاني وجواد ظريف، اللذين أكدا رفضهما لغة التهديد، بل توعدا بحمل مستخدمها على "الندم".

لقد أصبحت لغة الخطاب المتبادلة بين واشنطن وطهران عدائية، ويسود عدم التفاهم الكامل بين الدولتين، فضلاً عن المشاعر العميقة بالارتياب وعدم الثقة... وتلك بالطبع بيئة صالحة جداً لإنتاج الصدام.

لا تريد إيران إلغاء الاتفاق النووي بطبيعة الحال، وهكذا عبّر قادتها منذ إبرامه؛ لكن قطاعاً في السياسة الأميركية، ومنه الرئيس ترامب بطبيعة الحال، بدأ يدرك أن استمرار هذا الاتفاق يعني إتاحة الفرص لطهران لامتلاك سلاح نووي، وتوسيع قدرات الهيمنة، ومواصلة تأدية الأدوار السلبية في السياسة الإقليمية.

تتمسك القيادة الإيرانية بالاتفاق النووي، وتهدد كل من يفكر في إلغائه، لأنها ببساطة تدرك أنه مكسب كبير لها؛ وهو أمر بدأت واشنطن بإدراكه والشكوى منه.

عشية توقيع الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة الدول الست، كانت الولايات المتحدة في حاجة إلى حل للإشكال الإيراني لا يكلفها حرباً.

لأسباب عديدة ليس هذا مجال ذكرها، لم تكن الولايات المتحدة في عهد أوباما، راغبة في حسم الملف الإيراني عبر الحرب، غداة حربين في أفغانستان والعراق، سببتا مشكلات هيكلية لواشنطن، وهددت آثارهما السلم والأمن العالميين.

وقد انحصر خيار "حل الإشكال الإيراني سلمياً ودبلوماسياً" في هذا الصدد، في ثلاثة سيناريوهات، على النحو التالي:

السيناريو الأول:

ينصب هذا السيناريو على رضوخ إيران، ومن ثم موافقتها على تجميد مشروعها النووي، أو وضعه بالكامل تحت رقابة صارمة، تضمن عدم خروجه عن حدود محسوبة بدقة، لا تفضي في أوج تقدمها إلى تطوير سلاح نووي.

وفي هذا الإطار ستقبل طهران بحزمة مغرية من الامتيازات؛ بعضها مكاسب مادية مباشرة، وبعضها الآخر مكاسب استراتيجية، تحقق لها مصالح إقليمية معتبرة، وتضمن لها تسويات مقبولة في الأزمات التي تنخرط فيها، بما يحفظ ماء وجهها مع حلفائها الإقليميين، ويعزز مواقفها في مواجهة بعض أعدائها وخصومها.

لكن واشنطن لم تكن قادرة على تصعيد الضغوط على إيران، أو تقديم المغريات المناسبة لها، لقبول مثل هذا السيناريو، وبالتالي فقد تخلت عن فكرة تجميد المشروع النووي، كما تخلت عن فكرة وضعه تحت رقابة صارمة؛ إذ يؤّمن الاتفاق لإيران مهلة كافية قبل تفتيش بعض المواقع المشتبه فيها.

السيناريو الثاني:

يستند هذا السيناريو إلى تطوير حال الحشد والتهديدات الصارمة، تقتنع طهران على إثرها بأن محاولة المضي قدماً في خططها المفترضة لتطوير السلاح النووي ستنطوي على تكلفة أكثر من احتمالها، ومن ثم فهي سترضخ أيضاً لتفكيك مشروعها، وإبقائه قيد المراقبة الصارمة، تحسباً وترقباً لظرف دولي وإقليمي يُمكّنها من استعادته وتطويره في مرحلة زمنية أخرى قد تبعد أو تقترب وفق موازين القوى الدولية والإقليمية وحساباتها المتغيرة.

لقد أخفقت واشنطن أيضاً في تفعيل هذا السيناريو، ولا يمكن إنكار أن العاملين الروسي والصيني أديا دوراً حاسماً في إفشال قدرة العالم الغربي على تطوير آليات العقاب وفرض العزلة على طهران، وهو الأمر الذي صب في مصلحة الجانب الإيراني، وصلّب مواقفه.

السيناريو الثالث:

يتعلق السيناريو الثالث باقتناع الولايات المتحدة، وحلفائها في المنطقة والعالم، بأن خيار الحرب غير وارد بالنسبة إليها على الإطلاق، بالنظر إلى الخسائر الاستراتيجية التي يمكن أن يتمخض عنها، وبالنظر إلى التمترس والاستنفار الإيرانيين، والميل الواضح لدى قطاعات في الحكم الإيراني لتطوير المواجهة، على خلفية الإحساس العميق بـ"الذل التاريخي"، و"روح الاستشهاد"، والرغبة الكامنة في استعادة الإمبراطورية، المسكونة بالاعتبارات القومية والدينية المتجذرة في الروح الفارسية-الشيعية في الجمهورية الإسلامية.

واستناداً إلى هذه المقدمات فإن واشنطن وحلفاءها الكبار سيقبلون بحل يرجئ تطوير السلاح النووي الإيراني، مقابل إعطاء امتيازات لطهران، على أن يكون ذلك وفق اتفاق، يؤّمن فترة زمنية من عشر سنوات إلى خمس عشرة سنة، يمكن خلالها بناء "آليات احتواء"، مشابهة لتلك التي سبق أن بنتها الولايات المتحدة مع دول نووية من خارج المعسكر الغربي.

لقد اختارت واشنطن (أوباما) طريق "اللاحرب"، كما اختارت السيناريو الثالث، أي السيناريو الأسهل والأكثر فائدة لطهران، على أن تشرع، مع حلفائها، في بناء نموذج ردع واحتواء مشابه لذلك الذي بنته مع الاتحاد السوفياتي السابق قبل تحلله.

لكن ترامب وإدارته، ومن ورائه قطاعات محافظة في السياسة الأميركية، وعناصر مؤثرة في "المجمع الصناعي- العسكري" Military Industry Complex، وبعض الحلفاء اليمينيين في أوروبا، يعتقدون بعدم فاعلية تلك السياسة، وأنها تمنح إيران الوقت والهدوء والموارد اللازمة لتطوير سلاحها النووي، وتعزيز سلاحها التقليدي، وتوسيع دورها السياسي في الإقليم.

أفضل ما يمكن أن يفعله ترامب ليس شن حرب أو حتى التهديد بشنها، ولكن أن يعود إلى سيناريو أكثر نجاعة وفعالية؛ فإذا أرادت إيران السلام، والعلاقات الطبيعية، والمكانة الإقليمية المستحقة، فيجب أن تتخلى عن حلم السلاح النووي، وإذا أرادت هذا الأخير فليس من المنطق أن تحصل عليه مع كل المزايا السابقة.

* كاتب مصري