في الفعاليات والمناسبات الخاصة بالجوانب المتنوعة للعملية التعليمية، يجري الحديث عن التعليم وأحواله بنبرة يختلجها الأسف العاجز، ولا تستثنى من ذلك مؤسسات منوط بها تقييم المعرفة ومستوياتها، وفي هذا السياق أشارت تقارير متخصصة إلى أن المناهج الدراسية العربية تبدو وكأنها تكرس الخضوع والطاعة والتبعية، ولا تشجع التفكير النقدي الحر، وتتهرب من مقاربة الفلسفة العامة التي ينهض عليها التعليم نفسه، وهذه الجزئية تشير بوضوح إلى أهمية فكرة السيطرة على عقول الطلبة في العملية التعليمية، وقطعا هي فكرة تعمل على خدمة أوضاع اجتماعية وسياسية معينة. من نافلة القول، أن فكرة كهذه لن تعير اهتماما لأي أساليب مغايرة مثل تشجيع التلاميذ على اختبار أفكارهم وفحصها، أو إكسابهم مهارات التفكير النقدي، والتعبير عن أفكارهم بشكل واضح، وتعلم فنون النقاش والحوار، وتوطين العقل على النظر إلى الأمور من زوايا مختلفة، فهذه جميعا تتطلب كشرط شارط لتحققها نظاماً ديمقراطياً وفضاء واسعاً من حرية الفكر والتعبير، إذ إن أي ديمقراطية تتطلب بدءاً، حرية في التفكير والتعبير.
وليس ممكنا تخيل نظام ديمقراطي يعجز فيه الأفراد عن قول ما يؤمنون به، أو يوجهون نقودا لخصومهم، أو قول ما يريدون، ولماذا يريدونه، أو إبداء وجهات نظرهم وانتقادهم للسلطة وللآخرين، فمن دون تبادل وجهات النظر بحرية، وتداول الأفكار وإنتاجها، تصبح الديمقراطية مجرد تمثيلية رديئة.إن استراتيجية التعليم المعتمدة في ربوعنا بعيدة عن كل ما سبق، فهي مازالت تعتمد أساليب أقرب إلى "غسيل الدماغ " منها إلى إكساب الطلبة المهارات اللازمة لنموهم الفكري والعاطفي، وليس من باب المبالغة القول إنها تتجه أساساً إلى السيطرة على جماجم الأفراد وتطويعها، وليس مفاجئاً اكتشاف التطابق المذهل بين عملية "غسيل الدماغ" بمعناها الشائن وعملية "التعليم الرديء" بمعناها المبتذل. ما هو لافت للنظر، اعتماد هذه "غسيل الدماغ" على حزمة من الأساليب تكاد تتطابق مع جل ما هو مستخدم في العملية التعليمية في أكثر من قطر عربي، ولا ضير في أن نسوق هنا بعضها، حيث تلجأ كلتاهما إلى آلية العزلة، والتي بموجبها يتم حجب العديد من الآراء والأفكار المناهضة وفقاً لما ترغب السلطة والمؤسسة التعليمية في إيصاله للفرد، وبذلك لن يكون بمقدور الأخير إقامة مقارنة ما بين الأفكار التي يتلقاها من مؤسسة السلطة وتلك التي يعثر عليها خارج سياقها، فينتهي به الأمر إلى معرفة نسخة واحدة من الحقائق.وتتمثل الآلية الثانية في السيطرة، حيث تستهدف تلك الآلية السيطرة على جميع ما يراه الفرد أو يسمعه أو يفكر به، وتماماً كآلية العزلة، فإن السيطرة تقلص الأفق العقلي للفرد، وجعل نظرته للعالم ضيقة ومحدودة، بحيث يغدو من السهولة بمكان تفسير كل الأحداث والوقائع من خلال عقل يتيم، أما الآلية الثالثة فهي التكرار، ويتلخص تأثيرها في حقيقة أن الفرد كلما استمع إلى الخطاب الفكري ذاته على الدوام كان أكثر ارتياحاً وألفة بالنسبة إليه، وبسبب تلك الآلية غالباً ما تبعث الأفكار الجديدة- في من كان على الدوام أسيراً لخطاب فكري وحيد- الهلع والذعر.إن ذلك التشابه بين الآليات المستخدمة في "غسيل الأدمغة" و"التعليم الرديء" تقدم توصيفاً مروعاً لنوعية التعليم الرائجة حالياً ومن قبل، ويبدو المأزق مضاعفاً في ظل آليات أخرى تعمل عملها خارج ميدان التعليم وتتمدد لتشمل المجتمع بأسره، كآلية الرقابة، على سبيل المثال، فالسلطات التي تقف عقبة أمام التغيير، تسعى دوماً إلى تثبيت آلية الرقابة وتعضيدها، فمن يسعى إلى جعل الآخرين يتقبلون- دونما نقاش- ما يقال لهم، يكون حريصاً في الوقت نفسه على حجب الأنظمة الفكرية المغايرة له حجباً تاماً، وتساق في تبرير ذلك وتسويغه أمور على شاكلة تشويش عقول الناس، وزرع الفتنة في المجتمع وغير ذلك من مماحكات لفظية.
مقالات
التعليم أداة للتقهقر الحضاري!
19-02-2017