الكويت دولة مدنيّة ديمقراطية وفقاً للدستور وبالذات المادة (6)، وأي اقتراح لتنقيح مواد الدستور يجب أن يكون لمزيد من الحرية والمساواة وترسيخ أسس الدولة المدنية الديمقراطية التي تتسع للجميع، بيد أن تيارات الإسلام السياسي لا تعترف، مثلما ذكرنا من قبل، بالنظم الديمقراطية وقيمها مثل الحريات وتداول السلطة والتعددية وفصل السلطات، فالهدف النهائي لتيارات الإسلام السياسي هو إقامة دولة دينية لا تختلف من حيث النوع عن دولة "داعش"، إذ إن الفرق بينهما هو بالدرجة فقط، فتيارات الإسلام السياسي (جماعة الإخوان ومشتقاتهم) تعمل بحسب مراحل متدرجة تستغل خلالها الحريات النسبية والآليات الديمقراطية، مثل صناديق الاقتراع، من أجل الوصول للسلطة واحتكارها للأبد، أما "داعش" فيستخدم سياسة "حرق المراحل". لهذا فلا غرابة البتة بأن أولى أولوياتهم عند وصولهم إلى سلطة اتخاذ القرار هي محاولة إلغاء الدستور بشكل غير مباشر باتجاه إقامة الدولة الدينية، لذلك تقدموا هذه الأيام بطلب تنقيح المادة (79) من الدستور بعد فشلهم مرات عديدة (تسع محاولات) في تنقيح المادة الثانية، وإن تحقق لهم ذلك فلا قيمة عندئذ لباقي مواد الدستور، مع العلم أن هذه هي محاولتهم الثانية لتنقيح المادة (79)، حيث رفض سمو الأمير محاولتهم الأولى وفقاً للمادة 66 من الدستور.
وفي حالة تنقيح المادة (79) مثلما تطرحها جماعة الإخوان- فرع الكويت (حدس) وحلفاؤهم من التيارات الإسلامية السنّية فذلك معناه التحول من دولة مدنيّة، كما ينص الدستور، إلى دولة دينية لا تختلف كثيراً عن "داعش"، حيث سيكون هناك حينئذ سلطة دينية فوق السلطة التشريعية، (يتولى السلطة التشريعية حسب المادة 51 من الدستور الأمير ومجلس الأمة)، هي التي ستُقرّر عدم مخالفة القوانين للشريعة الإسلامية؟ فمِمّن تتكون هذه الجهة يا تُرى؟ وأي تفسير للشريعة ستتبنى لا سيما أن ثمة تفسيرات عديدة ومتناقضة لفرق ومذاهب وطوائف مختلفة، وكل منهم يقول "أنا الذي أمتلك الحقيقة كاملة"! حيث إن تفسير جماعة الإخوان لبعض القضايا يختلف عن تفسير جماعة أو جماعات السلف، هذا ناهيك عن الخلافات الفقهية بين السنّة والشيعة. ولعلنا نتذكر الخلاف الذي نشب بين جماعة الإخوان وبعض جماعات السلف (ما يسمى ثوابت الأمة) عندما عقد "مؤتمر النهضة" قبل سنوات في الكويت، إذ كتب آنذاك العضو د.جمعان الحربش في حسابه في "توتير" كلاماً موجهاً للعضو محمد هايف تناقلته بعض الصحف المحلية وملخصه هو "لا تختزل الشريعة بفهمك لها"، وهذا تأكيد للمؤكد وهو أن هناك أكثر من فهم وتفسير للشريعة الإسلامية، فأي منهم ستقره الجهة "السلطة" الدينية المُعينة فوق السلطة التشريعية بعد تنقيح المادة (79)؟!أما شعار تطبيق "الشريعة الإسلامية" الذي ترفعه تيارات الإسلام السياسي لتبرير انقلابها على النظام الدستوري فهو شعار سياسي عاطفي مراوغ، الهدف منه دغدغة مشاعر الناس البسطاء وكسب تأييدهم، فالشريعة الإسلامية مصدر أساسي للتشريع وفقاً للدستور، والدولة الدينية أو دولة "داعش" التي تطمح تيارات الإسلام السياسي إلى إقامتها غير متفق عليها حتى فيما بينهم، ولنا فيما يجري من صراعات دموية شرسة بينهم في سورية خير دليل. أخيراً وليس آخراً، فإن تيارات الإسلام السياسي التي تقف عائقاً أمام تطوير النظام المدني الديمقراطي وتطمح لإقامة الدولة الدينية تستمد قوتها من تحالفها مع النظام السياسي منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، وتسهيل عملية وصولها لسلطة القرار، فضلاً عن تمكينها من الانتشار الجماهيري، وذلك على الرغم من أنها تُعلن صراحة عدم اعترافها بالحريات وقيم النظام المدني الديمقراطي، حيث إن الديمقراطية بالنسبة إليها هي مجرد آليات أو صناديق اقتراع توصلها للسلطة كي تُغيّر قواعدها وتحتكرها للأبد. وما لم يتم فك الارتباط وإنهاء هذا التحالف السياسي، ثم حظر الجماعات الرجعية والطائفية التي يشكل وجودها تهديداً مباشراً وقوياً لأسس الدولة المدنية الديمقراطية وقواعدها فستستمر تيارات الإسلام السياسي في محاولاتها الدؤوبة لإقامة الدولة الدينية، وسيستمر التراجع الديمقراطي والتضييق على الحريات.
مقالات
تنقيح المادة (79) والدولة المدنيّة
20-02-2017